النشاط والحكمة: هل هي حقًا رهينة الشباب والشيخوخة؟
د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim
07/01/2025 القراءات: 9
منذ القدم، ترسخت في الوعي العربي مجموعة من المفاهيم التي ورثناها عن أجدادنا، والتي غالبًا ما نأخذها كحقائق مسلم بها دون تفكير عميق. ومن بين هذه المفاهيم الشائعة، تلك الفكرة الراسخة التي تربط بين الشباب والنشاط، وبين الكبر والحكمة. فكأن الحياة مسار خطي، يبدأ بالحيوية والاندفاع في سن الشباب، ثم يتحول تدريجياً إلى الهدوء والتأمل مع تقدم العمر. ولكن هل هذا التصور دقيق؟ وهل يمتلك الشباب وحدهم طاقة الإبداع والابتكار، بينما يقتصر دور الكبار على تقديم النصيحة والتوجيه؟
هذا التصور النمطي، وإن كان سائداً، إلا أنه لا يجد سنداً له في التاريخ ولا في الواقع المعاصر. فكم من شاب أضاع فرصته بسبب اندفاعه، وكم من عجوز حقق إنجازات عظيمة بفضل حنكته وخبرته.
أمثلة تاريخية تُعيد تشكيل النظرة:
تبرز هذه المفارقة بشكل جلي في العديد من القصص التاريخية، فتاريخنا العربي والإسلامي مليء بالشخصيات التي كسرت هذه القاعدة. نأخذ مثالاً واضحًا من شخصية "موسى بن نصير"، القائد الذي ناهز الثمانين عامًا. لم تمنعه شيخوخته ولا إعاقته الجسدية من قيادة جيشٍ أعاد فتح بلاد المغرب والأندلس كاملتين. هذا الإنجاز الكبير يثبت أن النشاط ليس امتيازًا محصورًا بالشباب، بل يعتمد على الإرادة والطموح.
على النقيض، نجد شخصية "الحسن بن علي بن أبي طالب"، الذي كان في مقتبل العمر عندما اتخذ قرارًا يعكس قمة الحكمة والنضج. تنازل الحسن عن الخلافة، مع أنه كان أحق بها، حقنًا للدماء وتوحيدًا للمسلمين. مثل هذه القرارات تتطلب شجاعة ووعيًا يتجاوز عمره الزمني بكثير.
كيف تنظر الثقافات الأخرى إلى العلاقة بين السن والحكمة؟
في الثقافة الغربية، هناك ميل للاحتفاء بالنشاط والإبداع في جميع مراحل الحياة. على سبيل المثال، العالم الفيزيائي "ألبرت أينشتاين" طور أشهر نظرياته وهو في الثلاثينيات من عمره، بينما استمر في الإبداع العلمي حتى سنواته الأخيرة. من جهة أخرى، نجد أن الثقافة اليابانية تحتفي بشيوخها، معتبرةً الحكمة والهدوء سمة من سمات التقدم في العمر، لكن دون إقصاء الشباب من أدوارهم.
على العكس من ذلك، نجد بعض الثقافات الأفريقية تركز على التوازن بين الجيلين، حيث تُعتبر حكمة الكبار مكملة لنشاط الشباب، مما يعزز التعاون بدلاً من التصنيف.
الأسباب النفسية وراء ربط النشاط والحكمة بالعمر:
يرجع سبب انتشار هذه المقولة إلى عدة عوامل، منها:
1. التجارب الحياتية: يُعتقد أن تراكم الخبرات مع مرور الوقت يؤدي إلى تطور الحكمة، وهذا صحيح جزئيًا. لكن الحكمة لا تعتمد فقط على العمر، بل على القدرة على التعلم والتفكر.
2. النشاط الفسيولوجي: يرتبط الشباب عادة بالطاقة البدنية، بينما يُعتقد أن الكبر يصاحبه انحسار في القوة، وهو ما قد يخلق هذا التصور النمطي.
3. التوقعات الاجتماعية: المجتمع نفسه يعزز هذه الفكرة من خلال تقسيم الأدوار بناءً على العمر. فالشباب يُدفعون للعمل والإبداع، بينما تُسند القرارات المصيرية للكبار.
حلول عملية للتغلب على هذه النظرة النمطية:
لكي نتخلص من هذه النظرة النمطية، يجب علينا اتخاذ بعض الخطوات العملية:
1. تعزيز النماذج الإيجابية: تسليط الضوء على قصص ملهمة من التاريخ والحاضر تُظهر أن النشاط والحكمة يمكن أن يتواجدا في أي عمر.
2. التعليم والتوعية: توجيه حملات إعلامية وتعليمية تُعيد تعريف مفاهيم النشاط والحكمة وربطها بالقيم الفردية بدلاً من العمر. مع تغيير الخطاب الإعلامي، مع التشجيع على التعلم المستمر مدى الحياة.
3. خلق بيئة تفاعلية بين الأجيال: تشجيع المشاريع المشتركة بين الشباب وكبار السن لتعزيز التكامل بدلاً من التصنيف.
4. إعادة صياغة الأدوار الاجتماعية: تغيير السياسات والتقاليد التي تحدد أدوار الأفراد بناءً على أعمارهم، والتركيز على المهارات والكفاءات بدلاً من العمر.
5. احترام الاختلافات الفردية: يجب أن ندرك أن كل فرد فريد من نوعه، وأن القدرات والمهارات تختلف من شخص لآخر بغض النظر عن العمر.
6. بناء جسور التواصل بين الأجيال: يجب تشجيع التفاعل بين الأجيال المختلفة، حتى يتعلم الشباب من خبرة الكبار، ويتعلم الكبار من حماس الشباب.
خلاصة القول:
إن ربط النشاط بالشباب والحكمة بالكبر ليس سوى تصوّر نمطي يعكس اختزالاً لتجارب الحياة الغنية. العالم مليء بأمثلة تثبت عكس ذلك. فما يحتاجه مجتمعنا هو إعادة النظر في هذه المفاهيم المغلوطة، والاعتراف بأن النشاط والحكمة هما وجهان لعملة واحدة، يمكن أن يتمتع بهما الإنسان في أي مرحلة من حياته إذا توفرت الإرادة والبيئة الداعمة.
الرسالة:
علينا أن نتخلص من هذه النظرة النمطية وأن نقدر كل فرد حسب إمكاناته وقدراته، بغض النظر عن عمره. فالشباب هم مستقبل الأمة، والعجول هم ركيزة خبرتها وحكمتها. وعندما يتعاون الجيلان، يتحقق التقدم والازدهار.
تربية، فكر، نهضة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة