مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم
يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ (47)
باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM
07/04/2024 القراءات: 687
حال المسلم بعد رمضان
ها هي الأمة الإسلامية، ودّعت قبل أيام، ضيفا كريما نزل بساحتها، وموسما عظيما حل وافدا عليها، شهر عظيم جاء بخيراته وبركاته، يزيد المؤمن فيه حسناته، ويعمل جاهدا على رفعة درجاته.
ما أحمل أيام شهر الصيام ولياليها، حين ترى الناس مقبلين على فعل الخير، والمساجد مزدحمة بالمصلين، والتراحم تتضاعف صوره في مجتمع الباذلين المنفقين، والتعاطف في أرقى درجاته بين عباد الله الصائمين.
لقد عشنا فيه أوقاتا جميلة، حافلة. بمسارعة الناس إلى الخيرات، ومضاعفة الأعمال الصالحات، والتسابق إلى المساجد لأداء الصلوات، والتزاحم في عمل النوافل وبذل الصدقات، فالنفوس قد أُترعت بروحانية، الشهر، والقلوب مملوءة بالمحبة والعطف.
جاء رمضان، ومن الناس من عرف عظمة هذا الموسم، وقدر أوقات الشهر الكريم، فاغتنمها وزاد من عمله الصالح، وتضرع فيه بين يدي مولاه، وسأله المغفرة والعفو، ومحو الذنوب والسيئات، والعتق من النار فقدم فيه خيرا، فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثبات على الطاعة، والمزيد من التوفيق للأعمال الصالحة.
ومن الناس من دخل عليه الشهر، ولم يأبه بدخوله، ولم يقدر قيمة لحظاته، ونفاسة أوقاته، فلم يغير شيئا من نمط حياته، ولم يعدل طريقته في قضاء أوقاته، فأهدر هذا الموسم، وفرط في اغتنامه، فرحل شهر الصيام وهو غارق في غفلاته، فيحتاج هذا إلى محاسبة نفسه والتوبة إلى ربه، وفتح صفحة جديدة، وحياة يستغلها بالطاعة، ويوظف أوقاته في طلب مغفرة ربه ومرضاته.
إن عباد الله الصالحين، وأولياءه المخبتين،، لا يزيدهم مرور المواسم الفاضلة، إلا قربا من ربهم، ومضاعفة لأعمالهم، لأنهم منداومون على عمل الصالحات، في جميع الأزمنة والأوقات، وفي سائر الليالي والأيام، وهم متعلقون بخالقهم، لا يجدون اللذة إلا في مناجاته، ولا الراحة إلا بدعائه والتعرض لنفحاته، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [سورة الفتح (29) ] .
قد غرس الله في قلوبهم حب الطاعة، فهم يؤمنون بأن العمل لا ينقضي إلا بانتهاء الأجل، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر الآية (99) ] فالموت هو الذي يقطع عليهم الاستمرار في فعل الخيرات ولذة المناجاة.
فسبحان من خالف بين قلوب العباد، وفرق بين الهمم، يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق، ويصرف من أراد عنها.
هاهم رهبان الليل، الذين ألفت قلوبهم الطاعة، وأحبت نفوسهم العبادة، يواصلون السير في طريقهم، ويداومون على العبادة في ليلهم ويومهم، قد واصلوا استغلالهم قطار الطاعة ليواصل بهم رحلته في طلب المغفرة والرضا، والفوز بالجنة وبلوغ دار السعداء، إنهم يصومون في هذه الأيام، لأن نبيهم صلى الله عليه وسلم، حثهم على ذلك بقوله: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدر" رواه مسلم.
وذلك فضل عظيم من الله تعالى، الذي يعطي على الحسنة عشر أمثالها، ذلك أن شهر رمضان بعشرة أشهر، فهذه الأيام الستة، كل يوم منها بعشرة أيام، مجموعها ستون يوما، فكان صيام رمضان والأيام الستة باثني عشر شهرا، وذلك عام كامل، فسبحان من لا تنقص خزائنه.
إنها فرصة سانحة فاغتنمها، ولا تفرط في صيامها، واعزم على فعل هذه الطاعة قبل فوات وقتها، عسى أن تحظى بالقبول من خالقك ومولاك.
ثم اشكر الله تعالى، على نعمة التوفيق للصيام، حيث أعانك على إتمام شهر رمضان وقيامه، فإن من جملة شكر العبد لربه أن يصوم له شكرا بعد رمضان، وقد كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي، أصبح نهارها صائما، ويجعل هذا الصيام شكر الله تعالى،
يقول العلامة ابن رجب رحمه الله: "على كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا، يحتاج إلى شكر عليها، ثم إن التوفيق للشكر نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدا، فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر: الاعتراف بالعجز عنه،
إن مقابلة نعمة التوفيق لصيام رمضان، بفعل المعاصي، وارتكاب المخالفات والمساوي، واقتراف الذنوب بعد تلك الأيام الفاضلة والليالي، انتكاس بعد توفيق ونكوص عن الحق، وغواية وضلال، وهوفعل من بدل نعمة الله كفرا، واختار طريق الضلالة والتعاسة، بعد أن سلك سبيل الهداية والسعادة، فإن كان قد بيَّت النية في صيامه لرمضان، وعزم على معاودة المعاصي بعد انقضاء شهر الصيام والقيام، فصيامه عليه مردود، قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد لم رمضان يعص الله، دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه مردود".
إن أعمال المؤمن الصالحة ليست معلقة بانقضاء رمضان، بل إن رمضان يزيد من حيوية النفس المؤمنة، ويبعث فيها القوة والنشاط، فإذا انتهى الشهر، كان أنشط في العبادة، فيستمر على الطاعة ما دام حيا، ولذلك ورد أن الصائم بعد رمضان كالكارّ
بعد الفارّ، أي كالذي يفر من القتال في سبيل الله، ثم يعود إليه، وذلك لأن بعض الناس ذوي النفوس الضعيفة والهمم الدنيئة، يفرح بانقضاء شهر الصيام، إذ هو يشعر بثقل شهر رمضان عليه، ويمل من أيامه ولياليه، ويرى أنه طويل عليه، قد حال دون تنفيذ شهواته ورغباته، ومن كان كذلك فلا يكاد يعود الي الصيام سريعا، وبعضهم يجتهد في شهر رمضان، فإذا انقضى عاد إلا التسويف والمماطلة، وارتكاب المخالفات، وقد سئل أحد الصالحين: عن قوم يتعبدون ويجتهدون في رمضان، فإذا انقضى تركوا العبادة، فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان.
إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. وقد نجد ذلك التسويف عند بعض الشباب، لأن الشاب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره، وهذا خطر؛ لأن الموت قد يفتك به وهو في رونق شبابه، وأقبح منه الشيخ المسن، فإنه إذا عاود المعصية بعد رمضان، كان ذلك أشنع وأفظع.
اللهم يا جابر المنكسرين، ويا راحم ذل المساكين، نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة،
يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ (47)
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع