مدونة د. سالم مبارك محمد حسن بن عبيدالله


الدرس الصوتيّ عند علماء الفلسفة والطب والحكمة الجزء الثاني

د. سالم مبارك محمد حسن بن عبيدالله | D. Salem Mubarak mohammed ban obaidellah


12/09/2020 القراءات: 7203  


ممَّن اهتمَّ بهذه الدراسات "الفارابي" (ت 3339هـ): من ذلك كلامه على حدوث الصوت والنغم، وربطه بين المبدأ الطبيعي لحدوث الصوت وكيفيَّة حدوث الكلام، وعنايته بدرجة الصوت (حدّته وثقله) وإشارته إلى وجوب استعمال الآلات للقيام ببعض القياسات التي يصعب تحديدها بالسمع.
ومنهم" ابن سينا" (ت 428 هـ)، حيث عالج أصوات اللغة علاجا فريدًا، ففي رسالته "أسباب حدوث الحروف" أشار إلى كنه الصوت وأسبابه، ووصف أجزاء الحنجرةlarynx" "، واللسان langue""، وتميَّز كلامه بمصطلحات تتوافق إلى حدٍّ كبيرٍ مع ما اهتدى إليه المحدثون من علماء الأصوات اللغويَّة، حيث لا نكاد نقع عليه عند أحد من المتقدِّمين، وهو يتَّصل بما يسمَّى علم الأصوات النطقي "phonetique articulatoir" فقد جاء حديثه فيها حديث العالم الفيزيائيّ حين أشار إلى كنهِ الصوت وأسبابه، وحديث الطبيب المشرِّح حين وصف الحَنجرة واللسان، وحديث اللغويّ المجوِّد حين تعرَّض لوصف مخارج الحروف وصفاتها، وحديث عالم الأصوات المقارنة حين تصدَّى لوصف أصوات ليست من العربيَّة، وحديث فقيهِ اللسان وأسرار الطبيعة حين ربط بين أصوات الطبيعة وأصوات الحروف. وتميَّز كلامُهُ في ذلك كلّه بمصطلحاتٍ لا نحسِب أحدًا من علماء العربيَّة يَشْرَكُهُ فيها( يُنظر: ريادة العرب المسلمين في علم الأصوات /3، وإسهامات اللغويين العرب في تطوير علم الأصوات /2.). فقد قسَّم رسالته على ستة فصول:
أوّلها : في سبب حدوث الصوت، حيث ردَّ ذلك إلى القلع أو القرع اللَّذَين يلزم عنهما تموّجٌ سريعٌ عنيفٌ في الهواء يُحدِث الصوتَ.
ثانيها: في سبب حدوث الحروف، حيث يبيّن أنَّ حال المتموِّج في نفسه من اتصال أجزائه أو تفرّقها تفعل الحدَّة والثقل - وهما يمثِّلان شدَّة الصوت "pitch" - ، وأنَّ حاله من جهة الهيئات التي يستفيدها من المخارج والمحابس في مسلكه تفعل الحرف، ثم يُعرِّفُ الحرفَ، ويقسِّم الحروف إلى مفردة ومركّبة موضّحًا طبيعة كلٍّ منها. ومن المعلوم في الصوتيات الفيزيائيَّة اليوم أنَّ الصوت الحاد أعلى تردُّدًا من الصوت الثقيل, فالتردُّد الأساسي لصوت المرأة (350 – 500) هرتز (هزة بالثانية)، في حين ينحصر التردد الأساسيّ للرجل بين (100 – 250) هرتز, ويمكن تمثيل ما قاله "ابن سينا" هنا بصوت الطبل, فكلَّما كان سطحه أملس وأجزاؤه متماسكة كان صوته حادًّا, وكلَّما كان سطحه متشظيَّا متشذَّبًا غير متماسك كان صوته ثقيلاً.
ثالثها: في تشريح الحَنجرة واللسان: حيث تبدّت عبقريّة ابن سينا الطبيّة، فشرَّح الحنجرة مبيِّنًا غضاريفَها الثلاثة )الدَّرَقي، والطِّرْجِهاري، وعديم الاسم) وكيفيَّة تركّبها، وارتباط بعضها ببعض عن طريق المفاصل والعضلات التي عدّدها وحدّدها تحديدًا دقيقًا بعد أن قسَّمها إلى عضلاتٍ مضيِّقة للحنجرة وأخرى موسّعة، وأشار إلى ارتباط بعضها بأنواع معيّنة من العظام (كالعظم الشبيه باللام) .ثمَّ شرَّح اللسان مبيّنًا عضلاتِه الثماني وارتباطاتها المختلفة.
رابعها: في الأسباب الجزئيَّة لحرف حرف من حروف العربيَّة، وهو بيت القصيد من الرسالة إذ تناول فيه حروف العربيَّة حرفًا حرفًا مبيّنًا سببَ حدوثِها، وما يعتري كلاًّ منها من عمليّات عضوية تتبدّى في دفع الهواء، وحبسه، وكيفيَّة هذا الحبس، والوسط الذي يتردّد فيه الهواء المدفوع من رطوبةٍ أو يُبُوسة أو ما إلى ذلك.
ولعلّ من أهم ما في هذا الفصل تفريق ابنِ سينا بين الواو والياء الصامتتين، والواو والياء المصوّتتين، ثمَّ بيانه العلاقة بين المصوّتات الطويلة والمصوّتات القصيرة ومحاولته تحديد زمن حصول كلّ منها.
خامسها: في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب، حيث عرض لحروف أعجميَّة (فارسيَّة ويونانيَّة وتركيَّة) تشبه بعض حروف العربيَّة، مثل G" وV و "P والراء الطائيَّة(تنطق بتدوير اللسان للخلف.( في مثل (يصدر)، واللام المطبقة في مثل (الصلاة) بتفخيم اللام. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ بعضَ هذه الحروف موجود في بعض اللهجات العربيَّة القديمة، ومن ثمَّ فقد اشتملت عليه بعض القراءات القرآنيَّة، كما جاء في قراءة حمزة والكسائي: ((حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ))( القصص /23.)، بإشمام الصاد صوت الزاي، وكما جاء في قراءة ورش ((وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ)) (البقرة /3) بتفخيم اللام.
سادسها: أنَّ هذه الحروف قد تسمع من حركات غير نطقيَّة. وهو فصل طريف يربط فيه ابن سينا بين أصوات اللغة والأصوات الطبيعية الأخرى محاولاً أن يتلمَّس وجوه الشبه بينهما، فالخاء عن حك الجسم ليّن حكًّا كالقشر بجسم صلب، والشين عن نشيش الرطوبات، وعن نفوذ الرطوبات في خلال أجسام يابسة نفوذاً بقوَّة، والطاء عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان بل ينحصر هناك هواء له دويّ، والتاء عن قرع الكف بإصبع قرعًا بقوَّة، وهكذا البقيَّة. كذلك لا تخلو كتب ابن سينا الأخرى كـــ"القانون" و"الشفاء" من إلماعات صوتيَّة تدخل فيما نحن بصدده( يُنظر: أسباب حدوث الحروف /54 - 97، والقانون في الطب، الحس).
وقد فطن كثير من اللغويِّين الغربيِّين إلى أهميَّة تراثنا اللغويّ العربيّ فأوْلَوْه جلَّ اهتمامهم، وربطوا بين التراث العربيَّ والنظريات الحديثة في دراستهم للعربيَّة، وجاءت أعمالهم من الدراسة والتحليل والعمق بالقدر الذي يجعلنا نؤكِّد أنَّهم استطاعوا الإجابة عن كثير من القضايا اللغويَّة في العربيَّة، ومن هؤلاء جان كانتينو (Jean Cantineau) وريجي بلاشر (Régis Blachère)، وأندريه رومان(André Roman) وكذلك اللغوي الشهير هنري فليش (Henri Fleisch) الذي أولى العربيَّة جلَّ عنايته، وخدمها بالعديد من البحوث، والمؤلفات الجادَّة التي من أهمها: دراسات في علم الأصوات العربيّ، ودراسات في الفعل العربيّ، وتاريخ النحو العربيّ، والتفكير الصوتيّ عند العرب في ضوء "سرِّ صناعة الإعراب" لابن جنِّي، وغير ذلك. ولم يخرج هؤلاء العلماء المعاصرون كثيرًا عن أسلوب الدراسات الصوتيَّة العربيَّة، فجعلوا دراستهم في فرعين أساسين هما: علم الأصوات اللغويَّة "Phonétique"، وعلم وظائف الأصوات"Phonologie".


الدرس الصوتيّ - علماء الفلسفة والطب والحكمة - ابن سيناء - الفارابي - الأصوات اللغوية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع