مدونة حسين سالم مرجين


إعادة التفكير في دور علم الاجتماع : منظور نقدي وتقويمي

حسين سالم مرجين | Hussein Salem Mrgin


27/07/2024 القراءات: 349  


في عام 2015، وأثناء عودتي إلى قسم علم الاجتماع في جامعة طرابلس بعد سنوات من الإعارة، قمت بتقديم محاضرة عامة لطلبة الدراسات العليا حول مفهوم علم الاجتماع وأدواره. خلال هذه المحاضرة، أوضحت أن علم الاجتماع هو مفهوم ديناميكي وقابل للتطوير، وليس ثابتًا أو جامدًا. كما بينت أن علم الاجتماع هو علم تقويمي، وليس مجرد علم نقدي. غير أن هذا التصور للعلم الاجتماع لم ينل استحسان بعض أعضاء هيئة التدريس في القسم. إذ اعتبر هؤلاء الأساتذة أن مفهوم علم الاجتماع هو مفهوم غير قابل للتطوير والتغيير، وأنه بالأحرى علم نقدي وليس تقويمي. وقد أدى هذا الخلاف في وجهات النظر إلى جعل الكثير من الباحثين بقسم علم الاجتماع يرون أن هذا العلم ينصب اهتمامه بشكل رئيس على دراسة الظواهر والمشكلات الاجتماعية من منظور نقدي. ينطلق هذا التوصيف من فهم علم الاجتماع على أنه أداة نقدية تستهدف فحص وفهم وتحليل الواقع الاجتماعي بعمق، بهدف الكشف عن الجوانب السلبية والمشكلات التي تعترض المجتمع. ويرى أصحاب هذا الرأي أن علم الاجتماع محكوم بطبيعة نقدية ثابتة لا تقبل التغيير. ومع ذلك، فإن هذا التركيز المفرط على الجوانب النقدية والمشكلات الاجتماعية، من وجهة نظري، أدى إلى تقليص دور علم الاجتماع وتحديد مجاله بشكل ضيق. فعلم الاجتماع لا ينبغي أن يقتصر على تشخيص المشكلات فحسب، بل يجب أن يهتم أيضًا بالجوانب الإيجابية والقوى الفاعلة في المجتمع.
في الواقع، إن لعلم الاجتماع أبعادًا متعددة تتجاوز مجرد دراسة المشكلات الاجتماعية. فهذه الأبعاد تتضمن جوانب نقدية وتقويمية على حد سواء. فهذا العلم يهدف إلى فهم الواقع الاجتماعي بعمق، والكشف عن مشكلاته وجوانبه السلبية، كما يسعى إلى إيجاد الحلول والبدائل الكفيلة بتحسين هذا الواقع وتطويره. وبناءً على ذلك، ينبغي النظر إلى علم الاجتماع بشكل متوازن، بحيث لا يتم الاختزال في جانب نقدي أو تقويمي على حساب الآخر. فالنقد البناء والتحليل الموضوعي للواقع الاجتماعي من جهة، والمساهمة في وضع الحلول والمقترحات التطويرية من جهة أخرى، هما وجهان لعملة واحدة في هذا العلم. لذا، ينبغي على الباحثين في علم الاجتماع أن ينظروا إلى هذا العلم بشكل شامل ومتكامل، بحيث يتجاوزون التركيز الضيق على الجوانب النقدية إلى البحث في مختلف الجوانب الاجتماعية، بما في ذلك الظواهر الإيجابية والعمليات البناءة في المجتمع.
عند مراجعة نطاق البحوث الأكاديمية في مجال علم الاجتماع في الجامعات الليبية، نلاحظ أن معظم مشاريع التخرج لطلبة أقسام علم الاجتماع، ورسائل الماجستير، وأطاريح الدكتوراه تتناول ظواهر اجتماعية أو مشكلات اجتماعية. في هذه الأبحاث، يسعى الباحث على مستوى كل مرحلة إلى دراسة هذه الظواهر والمشكلات وفقًا للأدوات التفكيرية التي يمتلكها. هذا الواقع يعكس تسليم واعتقاد بأن علم الاجتماع ينحصر في دراسة المشكلات الاجتماعية فقط، دون الاهتمام بالجوانب الأخرى في المجتمع. إن هذا التوجه الضيق نتج عنه صورة مشوهة لطبيعة وأدوار علم الاجتماع، والجزئية الأخيرة غاية في الأهمية.
وللمزيد من الإيضاح والتبسيط فإن مفهوم علم الاجتماع لا يقتصر على دراسة الظواهر أو المشكلات الاجتماعية فحسب، بل يشمل دراسة وفهم وتحليل وتفسير الحياة الاجتماعية البشرية بكل جوانبها، من النجاحات والإخفاقات على حد سواء. فهناك جانب مهم يغفله البعض أو يعتقدون أنه لا علاقة له بعلم الاجتماع. وذلك نتيجة التركيز الحصري على دراسة المشكلات والظواهر الاجتماعية في الحياة البشرية، دون الاهتمام بتعزيز النجاحات الموجودة أو التي تحققت في هذه الحياة. على سبيل المثال:
• كثير من الدراسات الاجتماعية ركزت على معدلات الطلاق المرتفعة في المجتمع الليبي وآثاره السلبية على الأطفال والمجتمع، دون التطرق إلى دراسة الأسر التي تمكنت من تجاوز مرحلة الطلاق والوصول إلى إعادة بناء علاقاتهم الأسرية بنجاح.
• هناك العديد من الأبحاث التي تناولت ظاهرة الجريمة والانحراف في المجتمع الليبي بتفصيل كبيرة، مركزة على أسبابها واستراتيجيات مكافحتها، دون التركيز على دراسة المجتمعات المحلية في ليبيا التي تتمتع بمعدلات منخفضة من الجريمة والانحراف، وتحقق درجة عالية من التماسك الاجتماعي.
• تركز بعض الدراسات في علم الاجتماع بالجامعات الليبية على مشكلات الفقر والبطالة وآثارها السلبية، دون التعمق في دراسة حول المجتمعات الحضرية التي نجحت في إيجاد آليات فعالة لمكافحة الفقر والبطالة وتحقيق التنمية المستدامة.
• كثير من الدراسات الاجتماعية في علم الاجتماع ركزت على ظاهرة تعاطي المخدرات والآثار السلبية المترتبة عليها، دون التطرق إلى دراسة الأشخاص الذين نجحوا في التعافي من الإدمان على المخدرات واستعادة حياتهم الطبيعية.
هذه بعض الأمثلة التي تركز على النجاحات والإيجابيات في مختلف المجالات الاجتماعية، وتعطي صورة متكاملة عن الواقع الاجتماعي بجوانبه المختلفة. مع كل ما سبق يمكن القول بأنه من الضروري إعادة النظر في دور علم الاجتماع في الجامعات الليبية، بحيث تتسع لتشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، بما في ذلك الجوانب الإيجابية والناجحة، وليس فقط المشكلات والظواهر السلبية. وبهذا يتم تعزيز دور علم الاجتماع في المجتمع والمساهمة في تطويره بشكل شامل ومتوازن.


علم الاجتماع - مجال النقدي - المجال التقويمي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع