مدونة عبدالحكيم الأنيس


أثر القرآن الكريم في تفكير الإنسان المعاصر

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


07/07/2024 القراءات: 179  


(عقدتْ "كليةُ العلوم الإسلامية" في "جامعة ديالى" في العراق مؤتمرًا علميًّا تحت عنوان: (أثر الفكر الإسلامي في حياة الإنسان المعاصر)، وكان برعاية وزير التعليم العالي والبحث العلمي أ.د. نبيل كاظم عبد الصاحب. وبإشراف السيد رئيس جامعة ديالى أ.د. عبدالمنعم عباس كريم. وبرئاسة السيد عميد كلية العلوم الإسلامية في الجامعة أ.د. عمر عبدالله نجم الدين. وذلك يوم الاثنين (29) مِن شوال سنة (1443)، الموافق (30/ 5/ 2022م)، وتفضلت الكليةُ المذكورةُ بدعوتي للمشاركة فيه، فكانت هذه الكلمة في افتتاحه):
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
وبعد: أريدُ أنْ أتكلمَ كليمات حول الهدف الثاني مِنْ أهداف هذا المؤتمر المبارك، وهو: (تشجيع المداومة على القراءة والتأمُّل في القرآن الكريم، والعمل على تشجيع الدراسات والبحوث والمؤلفات التي تدرسُ العلوم المتعددة فيه، ومنها علوم الحياة، فلا شك أنَّ في ذلك فائدة كبرى لصلاح الأرض وإعمارها).
أقولُ: إنَّ القرآن الكريم أولى مسألةَ القراءة والتأمُّل أهمية كبيرة جدًّا، وقد كنتُ قمتُ باستقراءِ مواضعِ ذكرِ العقلِ والقلبِ، وما صِيغ منهما؛ لاستخراج وظائف العقل المصرَّح بها والملمح إليها، فبلغتْ هذه المواضعُ خمسة وستين موضعًا، وفي بعضها تكرارٌ يشيرُ إلى أهمية ذلك الأمر.
وقد جاءتْ هذه المواضع في أربع وعشرين سورة مكية وهي: الأنعام، الأعراف، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، النحل، الأنبياء، الحج، المؤمنون، الفرقان، الشعراء، القصص، العنكبوت، الروم، يس، الصافات، ص، الزمر، غافر، الزخرف، الجاثية، الملك.
وجاءتْ في تسع سور مدنية وهي: البقرة، آل عمران، المائدة، الأنفال، النور، الحجرات، الحشر، الطلاق، الحديد.
ومجموعُها ثلاث وثلاثون سورة.
وحين يَعرضُ الإنسانُ نفسَه على مواضعِ دعوةِ القرآنِ الناسَ إلى إعمال عقولهم، والتأمُّلِ والتفكُّرِ بما في أنفسهم، وفيما حولهم، يجدُ قصورًا وتقصيرًا كبيرًا في معرفة هذه المواضع، وفهمِها، وتبليغِها، وكان الإمامُ ابنُ فورك (ت: 406) يقول: "الذي ينبغي لطالب الحكمة أَنْ يبتدئ به:
النظرُ في مفهوم القرآن، حتى يفهمَ كلَّ آيةٍ بما لو أرادَ أنْ يُترجِمَ عنه [أي عن القرآن] بغيرِ تلك العبارة أمكنَهُ ذلك.
ثم متَضمنُ كلِّ آيةٍ ممّا يدلُّ عليه مِن غير تصريحٍ به.
ثم تحصيلُ ما يَعمل عليه في الاجتباء والإنقاء.
ويكون مِن الجميع على ثقةٍ في معتقدهِ بالدليلِ عليه".
ومِنْ هذه الأعمال التي دعا القرآنُ إلى إعمال العقل فيها:
النظرُ في أفعال الله، ومِن ذلك: خلقُ بقاع الأرض المختلفة، وخلقُ جنّات الأعناب، والزروعِ، والنخيلِ ذي الرأس والرأسين المختلفة، وتغايرِ ثمرها في الشكل، واللون، والطعم، والرائحة، مع أنها تُسقى بماء واحد، قال تعالى: (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يُسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) [الرعد: 4].
-ومِنْ دعوة القرآن إلى إعمال العقل في أفعال الله: النظر في تسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، قال تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) [النحل: 12].
-ومن النظر في أفعال الله: النظرُ في إنشاء السمع والأبصار والأفئدة، وذرء الناس في الأرض، والإحياء والإماتة، واختلاف الليل والنهار: قال تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون. وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون. وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون) [المؤمنون: 78-80].
"(وله اختلاف الليل والنهار) أي هو مختصٌ به، وهو متوليه، ولا يَقدرُ على تصريفهما غيره" .
-ومِن النظر في أفعال الله: النظرُ في إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به بعد موتها، ومعرفة ما في ذلك من دلالةٍ على الخالق الرازق: قال تعالى: (ولئن سألتهم مَنْ نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) [العنكبوت: 63].
"لا يَعقلون ما يقولون، وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد. أو لا يَعقلون ما تريد بقولك: الحمد لله، ولا يفطنون لم حمدتَّ الله عند مقالتهم" .
-ومِن النظر في أفعال الله: ملاحظةُ ظاهرة البرق، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به بعد موتها: قال تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) [الروم: 24].
في الآية دعوةٌ إلى إعمال العقل والتفكر في مظاهر وجود الله وقدرته.
-ومِنْ مواضع إعمال العقل في القرآن: ضرورةُ النظرِ في خلق النفس، والآباء، والنظرِ في هذا الكون ولا سيما طلوعُ الشمس ومغربُها: قال تعالى:(قال لمن حوله ألا تستمعون. قال ربكم ورب آبائكم الأولين. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) [الشعراء: 25-28].
قال الزمخشري: "فإنْ قلتَ: كيف قال أولًا: (إن كنتم موقنين)، وآخرًا: (إن كنتم تعقلون)؟
قلتُ: لاينَ أولًا، فلما رأى منهم شدةَ الشكيمةِ في العناد وقلةَ الإصغاء إلى عرض الحُجج خاشَنَ. وعارضَ (إن رسولكم لمجنون) بقوله (إن كنتم تعقلون)" .
ويُستفاد من الآيات ضرورةُ النظرِ في خلق النفس والآباء، والنظرِ في هذا الكون ولا سيما طلوع الشمس ومغربها "على تقديرٍ مستقيمٍ في فصولِ السَّنة وحسابٍ مستو" .
إنَّ هذه المواضع وغيرَها تبيّنُ لنا ضرورةَ إعمال العقل، وتجديد الفكر، والانطلاق إلى عوالم كتاب الله المقروء والمشاهد، وفي ذلك الخيرُ العميمُ للإنسان والمجتمع. والله المُوفِّقُ لا ربَّ سواه.
***


القرآن. تدبر. تأمل. علوم الحياة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


معاني دقيقة وعميقة، أحسنتم في عرضها وتبسيطها. تستوقفني دائماً الآية الأولى في سورة العلق " إقرأ بسم ربك الذي خلق" وأقول لايمكن أن يكون المقصود بكلمة إقرأ قراءة الحروف والكلمات خصوصاً أن المخاطب صلى الله عليه وسلم أُميّ لا يقرأ ولا يكتب. فالمقصود هنا والله أعلم قراءة كتاب الكون باسم خالق الكون. قراءة بالبصيرة وبالتأمل، وبذلك يكون كل شيء قابل للقراءة وكل عاقل قادر عليها.