مدونة د. اوان عبدالله محمود الفيضي


الحماية الشرعية القانونية لهندسة الخريطة الوراثية

د. اوان عبدالله محمود الفيضي | AWAN ABDULLAH MHMOOD ALFAIDHI a


04/09/2022 القراءات: 1818  


لقد حقق العلم قفزة نوعية عريضة على طريق التقدم حين عرف أن للجنس البشري خريطة وراثية وأن ثمة آلية تنتقل بها صفاته وخصائصه إلى أجياله المستقبلية فعرف الوحدات الحياتية المسؤولة عن هذا الانتقال وفتحت هذه المعرفة أمامه آفاقاً ومجالات رحبة من شأنها أن تحدث تغييراً كبيراً في حياته وامكاناته فأدى اكتشاف هذه المعرفة وتطبيقاتها المختلفة التي أطلق عليها اسم الهندسة الوراثية إلى خلق وانبعاث إشكاليات قانونية متعددة فكان لزاماً على المشرعين في الدول أن يقفوا من هذه التطورات موقفاً إيجابياً موضوعياً وسطاً فيجب عليهم من جهة ألا يعتزلوا الواقع أو يكونوا سلبيين متخذين وقفة المعارض للتقدم العلمي المتسارع في ميادين علم الطب والبيولوجي ومن جهة أخرى يجب عليهم ألا يدعوا التجارب العلمية في هذه الميادين سدى دون تنظيم أو أن يتركوها دون قيود شرعية قانونية
وفي سبيل تحقيق هذه الموازنة وضعت القواعد القانونية الحامية والمعبرة عن معنى الخريطة الوراثية والمنظمة للتطبيقات المتصلة بها على الصعيدين الوطني والدولي وأريد للهندسة الوراثية من خلال ذلك أن تتسم ببعد أخلاقي شرعي قانوني فضلاً عن البعد العلمي فهي لا تعدوا ان تكون مجموعة الرموز البيولوجية المشفرة التي تكشف عن الصفات والخصائص للإنسان البيولوجية والتي تميزه من غيره من الأفراد مهما كانت درجة القرابة بينه وبينهم فهي الاسم البيولوجي للشخص وقد كشف مشروع قراءة الخريطة الوراثية للإنسان مشروع الجينوم البشري الذي ابتدأ العمل به عام1990عن امكانية قراءة المعلومات التي تلتئم عليها الخريطة الوراثية ومكنت العلماء من التعرف على نوعية الإنسان الذي سيخلق فيما بعد من حيث الصحة والمرض ومن ثم تخليصه من الأمراض الوراثية أما بطريق المداخلات الطبية بإدخال القطع الصحيحة من الجين في الخلايا الجسدية مكان القطع المريضة أوبطريق منع توفير الظروف الملائمة لتلك الأمراض الوراثية إذ أن الكثير منها لا يعتمد على الوراثة وحسب بل كذلك على البيئة وقد أعطى هذا دفعة قوية إلى ازدهار وتقدم علم الطب الوقائي
وكذلك مكنت العلماء من إنتاج المواد الكيميائية والحياتية والبروتينات المهمة لمختلف الاستخدامات والأغراض الصيدلانية وذلك باستخدام المعلومات المتضمنة في الخريطة الوراثية لإنتاج مواد كيميائية عضوية كالأحماض الأمينية والسكريات والمضادات الحيوية والهرمونات والإنزيمات وغيرها ومن أبرز تلك المنتجات الحياتية الأنسولين لمعالجة مرض السكر وهرمونات النمو لمعالجة نقص النمو والانترولوكين لمعالجة السرطان والانترفيون لمعالجة الفايروسات والسرطان وإنتاج اللقاحات وهي المواد الأساسية للوقاية من الأوبئة كإنتاج لقاحات جديدة أكثر فعالية لأمراض عديدة كالملاريا والإيدز ووباء كورونا الا ان مواضيع حماية الهندسة الوراثية لم تحظى باهتمام في ظل التشريعات الوطنية عموما بمثل ماحظيت به على الصعيد الدولي فيما عدا بعض التشريعات في بعض الدول المتقدمة كألمانيا وفرنسا وإسبانيا وتناولت هذه التشريعات الوطنية بعض المسائل المتعلقة بالهندسة الوراثية كالقيمة القانونية للإثبات القضائي بطريقة الخريطة الوراثية ومدى حجيتها القانونية وإمكانية إجراء المداخلات على الخريطة الوراثية والشروط اللازمة لإجراء مثل هذه المداخلات على الجينوم البشري خاصة
ففي ألمانيا وضع تشريع للهندسة الوراثية فيما يتصل بحماية الحق في الخصوصية الجينية أو بالمداخلات الطبية على الخريطة الوراثية كما جرم المشرع الفرنسي جميع المداخلات الطبية على الخريطة الوراثية مالم يكن الغرض من إجرائها علاجياً أوعلمياً كما أجاز إمكانية استخدام المعلومات البيولوجية المستخلصة من الخريطة الوراثية في مسائل الإثبات القضائي المدني كما أصدر المشرع الإسباني تشريعاً يعد بحق من أهم المعالجات التشريعية التي تناولت الحماية القانونية للخريطة الوراثية اذ منع إجراء أي مداخلة من شأنها تشويه السلامة البدنية للشخص كما ضمن للشخص الحماية القانونية ضد أي مداخلة طبية من شأنها التغيير في تركيبة الخريطة الوراثية في غير حالة الغرض العلاجي وبهذا فقد قيد القانونان الإسباني والفرنسي وكذلك القرارات الصادرة من مجامع الفقه الإسلامي إجراء المداخلات الطبية الجينية بقيدين مهمين وهي ان تتم المداخلة الطبية الجينية برضاء الشخص الخاضع للمداخلة او من ينوب عنه في حالة صغره كما يجب ايضا أن تستهدف المداخلة الطبية غرضاً علاجياً يتمثل في تخليص المريض من جين يحمل مرضاً وراثياً وتبعاً لذلك تترتب المسؤولية القانونية سواءً كانت جنائية أو مدنية إذا كان الباعث على إجراء المداخلة قد استهدف تحقيق غرض عرقي أو تغيير في السلالة الإنسانية للجنس البشري
ونسجل دعوتنا الى إصدار تشريع يتناول الخريطة الوراثية وتطبيقاتها يكون متفق مع التعاليم الاسلامية ويستفيد من الاتفاقات الدولية ولعل من ابرزها التوصيات التي قدمتها مقررات المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو في شأن الجين البشري وحقوق الانسان لسنة 1997 والتحفيز المستمر لأنشاء مراكز خاصة تشرف عليها الدولة وتدار من قبل أطباء واختصاصين في علم البيولوجي وذلك لغرض إنشاء قاعدة معلومات وراثية لكل الافراد تتمتع بالسرية فلا يجوز كشفها وإطلاع الغير عليها الا في حالة التحقيقات الجزائية او مسائل الاثبات في القضايا المدنية وبأمر من المحكمة المختصة حصرا فضلا عن وضع الضوابط الشرعية القانونية والإدارية على المؤسسات الطبية التي تقوم بإجراء مثل هذه المداخلات والإشراف عليها ووضع العقوبات الانضباطية الرادعة لأي مخالفة عن طريق إصدار تشريع مستقل خاص بها يتناول بالتفصيل الجوانب القانونية لهذه المداخلات ويقصر عمليات إجراءها على تحقيق غرض علاجي فقط وبهذا نرتقي بالحماية القانونية في الهندسة الوراثية لوحدة وسلامة الخريطة الوراثية الى مرتبة النص الدستوري واشتراط أن يكون رضاء الشخص الخاضع للمداخلة مكتوبا فهذا سيعمل على تيسير الاثبات القضائي ودقته اذ سيعد دليلاً على توافر عنصر الرضاء نسأل الله ان يهدينا لما فيه الخير والتوفيق والسداد إلى الحق والصواب


( الحماية الشرعية القانونية هندسة الخريطة الوراثية)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع