وصايا الجدّ يعقوب الإسكافي لحفيدته ليا
د. نضيرة بريوة | Dr. Nadira Brioua
04/12/2020 القراءات: 2457
"هذه أنتِ! تَدانِي أكثر فأكثر! لم تزوريني منذ أسبوعٍ.. هل كلّ شيءٍ على ما يرام!"
"أنا بخيرٍ يا جدِّي لكنّ أمي مبْهُورةٌ قليلا فنادَمتها حتّى زال عنها الإعْياءُ"
"خِفتُ أن تكونَ الحفيدةُ قد فرّطَت في جدِّها الأشْيَبِ!".
"أوَ يُحالَلُ الجُثْمانُ من دون مُهْجَةٍ يا جدّي!"
"يا بليغة اللسانِ أَقْبلي إلى حضنِي. هيا. هههه. الآن صار الكوخُ دافئاً و منيرًا. اشتقت لكِ يا ليا".
و ظلّّ الجد يعقوب حاضنًا حفيدته لدقائقٍ.
"لديَّ بعض الأكلِ في الثلاجةٍ، نسخنّه و نأكلُ معًا.
أكلتْ ليا بعضًا من الجشيشة رفقة جدّها.. ثم حضّر الجدّ الشاي و معها الطفيشل.
"لقد جهُز الشاي".
"الحقيقة يا جدّي أحضرت معي حذائي لتصلحه لي".
توجّه الجدُّ رفقة ليا إلى كوخٍ صغيرٍ تتوسطه طاولة عليها أدوات العملِ و تحيطه العديد من أنواع الأحذية المختلفة كالخف، و الفراء، و القبقاب، و الجزمة، و الصندال… إلخ.
"لا أرى مشكلةً في الحذاءِ يا ليا.. الحذاءُ جيدٌ و صلبٌ".
"كبُرت رجلي و لم يعد بمقاسِي.. أريدك أن تزيدَ في حجمِه قليلا جدِّي".
"ههه.. الحذاء لا يصَغَّر و لا يكَبّر يا ابنتي. إذا انخَرقَ نصلحُه، و إذا أصبح صغيرًا نستبدلُه"
"لكنّك دائما ما تقول لي تمسّكي بالأشياءِ التي تنتمي إليها و لا تتخلي عنها فتصبحين ناكرةً للأصلِ؟".
"نعم، لكن ذلك لا ينطبق مع الأشياءِ و لا مع الأشخاصِ قاطبة يا ليا.. لا تتخلي عن الأمورِ الذي من دونها تنصهرين و تمضين كاللاشيء مثل دينك، و ثقافتك، و أصالتك، و مبادئك، و هويتك، و كل ما ينتمي لعالمكِ الذي يختلف عن عالمِ "الآخر".
"أوليس كلّ جديد معاصر كما أخبرتني يا جدّي؟"
"لا يا ليا؛ ليس كلّ جديد مرفوضا.. خذي من كل جديدٍ و معاصرٍ ما لم يدنس روحَكِ الطيبةَ و أتركي الذي يعريك من أصلك.. فرق بين التقليد الأعمى و بين التجديد لأجل مجاراة الحياة اليومية.. الأصِيلةٌ يا ليا تجاهد للتميُّز بأَصالتها مجابهة لأخطار الإضمحلالِ في خِضم هذا العصْرِ الجانِحِ الكَاسِدِ المُدنّسِ للمبَادئِ الإسلاميةِ الأخلاقيّةِ.. تمسكي بالحضَارة؛ لكنّ هذا الحذاء لا يناسبُك برمّته؛ فخذي الأشياءَ على مقاسِك و شكلِك".
"قلت الأشياء و الأشخاص.. هل أستبدل من أحبّ يا جدّي! أو أستبدلك!"
"ههه. يا ليا قلبِي، الأهل و الأقارب لا يُستبدلون و لا يُعوضون.. بل وجب عليك طاعتهم و احترامهم، و برّهم، و العمل بما يسعدهم، و ترك ما يغصبهم.. بل لابد أن يكون جلُّ خيرك لهم و معهم.. الذين يُستبدلون هم الأشخاص السلبيون الذين تتعرفين عليهم في الحياةِ . قريبا جدا ستذهبين إلى المدرسة، و ستشكلين زملاء الدراسة، و صديقات يبادلنك نفس الطباع، و من ثم زملاء العمل، و العديد منهم سيقتحم عالمك الخاص.. حينَ يحلّون الغرباءُ على حياتك، عليك أن تفرقي بين الذي يكن لك الحبّ، و الرحمة، و الطيبة، ويُجالسك بشغفٍ، ويُسْعِدك و يسعَد بجمعك؛ أولئك الذين يملئون عليك الدُّنيا؛ يقاسمونك المكان و الزّمان؛ ينثرون ورودا كبلسمٍ على جراحِ وحدتك؛ فتطيبُ روحك.. في المقابل ستلتقين بحسادٍ، و أعداءٍ، و سلبيين يعكرون عليك أجواءَ قلبِك الصغيرِ، و يجرونك إلى الفسادِ جرا؛ فانتبهي و ابتعدي عن هؤلاءِ.. أما الصّنف الثالث يا ليا.."
"أوَ يوجد صنف ثالث يا جدّي غير من يحبك و يكرهك؟"
"العديد من الذين يحبونك قد يخدعونك يوما ما و يتحولون إلى ألذِ الخصماءِ، فأحذريهم.. و من الأعداءِ من يصبح أحبَّ الأحبابِ فالأيام دول، و يهدي الله لحبّك من يشاء.. فخذي من أتاك على حبٍّ، و اجتنبي العدوَّ، و أعلمي يا بنيّتي أنّه في النّاسِ إبدال".
"ماذا لو أصبحت صديقتي زينبُ عدوةً لي حين نكبر؟ لكنّني لا أستطيع أن ألعب من دونها".
"شعور مؤقت و مرتبط بزمانٍ، و مكانٍ، و عمرٍ يا حفيدتي.. ستكبرين، و ترتحلين، و تعايشين الزمان بمراحله و سنينه و أعوامه ،و ستدركين أنّ نفسَ الشيءِ الذي كنت تعتقدين أنّك لن تعيشي من دونِه له أن يُصبح ذات الشيء الذي لن تعيشي إلا إذا تغاضيتي عنه، أو العكس بحيث، نفْسُ الشيء الذي كنت تعتقدين أنّكِ تموتين بسببه له أن يصبح نَفَسَ حياتكِ. ما بين الأمرين يوجد ثلاثةُ أشياء إيجابية عليكِ الاعتماد عليها: العقل، و التمييز، و القرار.. بالمقابل ما بين الأمرين يوجد كذلك ثلاثة أشياء يجب الحذر منها: العاطفة العمياء، و التردّد، و الشيطان. في كلِّ هذه الأمور لابد أن تستبقي أمرًأ أوليّا في قاطبةِ أمور حياتكِ: الاستخارة.. لا خاب من استشار الله و إنّ الله لعزيزٌ حكيمٌ.. فأيقني يا قرّة عيني و تيقني يرحمكِ الله، أنّه في الأشياءِ كما في النّاس إبدالٌ".
"على أيّ أساسٍ نحافظ أو نستبدل يا جدّي"
"لماذا تريدين أن تغيري مقاسَ الحذاءِ؟"
"صار صغيرًا، و مؤلمًا جدا".
"كذلك الحال مع النّاسِ و الأشياءِ. إلبسي على مقاسِك و عاشرِي من هم بمستوى عقلك. فلا تخالطي من لا يناسبك و طبيعتك و أفكارك فيتلف عقلك؛ فالطيور على أشكالها تقع. و كما يؤلمك الحذاء يوجد من النّاس كذلك من سيسببون لكِ الوجع؛ فإيّاكِ أن تعتادي على ألمهِم، أو أن تسامحيهم سذاجة، أو أن تتغاضي عن سلبياتِهم؛ ستتراكمُ في قلبِك الطيّبِ الصّغيرِ، و ستظهر على ملامحِك مع مرورِ الزّمانِ. سيقهرونك، و يغيرون ابتسامتَك إلى دمعةٍ، و أملَك إلى ألمٍ، و صفاوتَك إلى كدَرٍ. اتركي و تعلمي أن تهاجري كالطيور اليوم هنا و غدا هناك".
ماذا تنتظر يا جدّي! فلنصنع حذاءً جديدا".
"دعني آخذ مقاسك إذن".
"حسنا! علي العودة الآن فأمي تنتظرني".
"ظننتك ستمكثين عندي هذه الليلة!"
"لم أخبر أمي. ستقلق علي".
"سأمرّ عليك بعد صلاةِ العشاءِ و أستئذن من أمّكِ لتبيتين الليلة عندي. لديّ المزيد من الوصايا لكِ.. لديّ المزيد من الحلوى كذلك"
جمعت ليا نفسَها و استعدت للعودةِ.. عند عتبةِ البابِ التفتت إلى جدِّها: "جدي! إياك أن تتحوّل إلى طيرٍ.. لا أستطيع العيش بدونك".
"أو لم أقل أنّ الطيورَ على شاكلتها!".
انتظرت ليا جدَّها إلى ما بعد العشاءِ. انتظرته إلى الأبدِ.
أصبح يعقوبُ طيرًا و هاجر.. هاجر من دونِ عودةٍ.
نضيرة بريوة
ليا و الجد، وصايا جدّي، دروس الحياة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع