الفكر العقدي والاستئناف الحضاري.
01/01/2021 القراءات: 1572
مما لاشك فيه أن شرارة الإيمان التي أشعلها رسول الله (محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم) لدى إنسان الجزيرة العربية كانت مبدأ لتحولات ضخمة وضعت الزمن على أعتاب نهضة حضارية شاملة حمل رايتها ذلك الإنسان الذي كان مثالا للجهل والتخلف فأصبح بفعل هذه الشرارة رائدا لأعظم حضارة إنسانية، وبالطبع فإن الذي أهل هذا الإنسان لمثل هذه الوثبة الحضارية هو مبدأ التوحيد الذي كان له دور كبير في ضخ روح الإيمان في تلك القلوب المجذبة وإعمارها، وطبيعي أن ترسيخ هذا الإيمان في النفوس يحتاج إلى أسس عقلية ومنطقية متينة تمكن العقيدة من التصدي بشموخ لكل الشبهات والتشكيكات الفكرية التي يروجها أعداء الإسلام، كما تمكنها من الاستجابة لمتطلبات وتحديات الواقع.
فتولد الفكر العقدي ليقوم بهذا الدور الكبير، ولكن بمرور الزمن وإثر انفتاح المسلمين على التراث اليوناني والتعاطي مع ما يحمله من علوم وفنون خصوصا المنطق اليوناني، انشغل الفكر العقدي الإسلامي عن وظيفته الحقيقية وهي إنتاج الإيمان وبثه في قلوب المسلمين واهتم بجوانب تجريدية بعيدة كل البعد عن الواقع العملي.
وفي غياب الإيمان الواعي بعقيدة التوحيد لدى المسلمين والذي ساهم في تغييبه تضخم البحث الكلامي، كان واقع المسلمين يسير من السيئ إلى الأسوأ حيث استبدت به مظاهر يؤسف عليها لازمته قرونا مديدة من أهمها الاستعمار، الأمية والتخلف في كل مناحي الحياة، وفي عصرنا الحاضر شهد العالم الإسلامي حركة إحيائية تستهدف العودة إلى الإسلام وتحرير الإيمان الواعي بمبدأ التوحيد.
ومن هنا بالذات تتأكد ضرورة تجديد وعينا للدين ودوره في حياة الإنسان وبالطبع فإن الاستجابة لهذه الضرورة، تجديد وعينا للدين ولدوره، لا يمكن إلا من خلال التوافر على دراسة أصول العقيدة التي يقوم عليها الدين، باعتبار أن المعتقد الإسلامي يشكل حقيقة الإسلام وجوهره وأما الشريعة فهي بمثابة التعبير الاجتماعي عن المضمون الإيماني. وهكذا يحتل علم الكلام الديني دورا رئيسيا في المنظومة المعرفية لأي دين كما يحتل مركزا حساسا فيها، ومن الطبيعي وفقا لهذا الموقع الذي يتميز به أن يمثل التنامي أو التغييرات أو التعديلات الطارئة على هذا العلم تغييرا بنيويا بالنسبة إلى خطوط الخارطة المعرفية الأخرى كافة، ومن هنا يكون هناك مجال للتحفظ إزاء عمليات إعادة النظر أو البناء التي تمارس في نطاق المسائل الفقهية والقانونية أو المسائل الأخلاقية والتربوية، وذلك بمعزل عن ملاحظة التعديلات التي طرأت وتطرأ أو التي لابد أن تطرأ على علم الكلام، فهذا العلم يشتمل جملة المبادئ التصديقية للمعارف الأخرى، لذا يجب أن يكون الانطلاق من القاعدة وصولا لرأس الهرم والعكس غير ممكن.
هذا ما تقتضيه طبيعة العلاقة بين هذه العلوم والمعارف، وهذا ما يفرض وضع التنمية الشاملة لعلم الكلام في موقعها الصحيح ضمن سلم الأولويات الفكرية والثقافية، لأن قضية إعادة ترتيب الأولويات بما يناسب الظروف الثقافية الراهنة وعدم التقيد بالترتيب السابق لهذه الأولويات الذي اقتضته ظروف سابقة مختلفة، تعد واحدة من أهم ما ينبغي تحديده للتوصل إلى نمو صحيح.
إن علم الكلام ليس ترفا من قبيل الكماليات، بل هو ممارسة جدلية من صميم الفاعلية العقلية، تنشئ معارف بقدر ما تحقق مواقف، وغني عن البيان أن المعارف، بما فيها المعارف العلمية، حصيلة التبادل والتنافس والخلاف بين الأفكار والتصورات، إذ الصائب من الأفكار والتصورات، إذ الصائب من الأفكار لا ينبثق من فراغ ثقافي، بل يبرز من خلفية تدافع الآراء المتعارضة وتلاقحها والمناقشة الجادة، في إطار مناخ محكوم بالحوار ويمهد السبل لبروز الأفكار البناءة.
وفي هذا السياق يأتي مشروع علم الكلام الجديد والذي جرى ويجري التركيز عليه في المحافل الفكرية والدينية المعاصرة، لاسيما في العقد الميلادي الأخير، إذ يحاول هذا المشروع أن يضع حدا لحالات الركود التي سيطرت على الدراسات الكلامية في القرون الأخيرة ويعيد بعث النتاج الكلامي من جديد ضمن آليات عمل متناغمة مع تطورات المعرفة الإنسانية خصوصا الحاصلة بفعل تأثيرات العاصفة الغربية التي عمت العالم من أقصاه إلى أقصاه، وذلك بهدف تحقيق التنمية الفكرية لهذا العلم ووضعه في سياقه المناسب.
ومن هذا المنطلق وجب الانتباه إلى أن تقدير الواقع الإسلامي في مظاهره وأسبابه منطلق أساسي لكل إصلاح وهو مرتبط بترشيد الاعتقاد الديني باعتبار أن المحرك للتحضر الإسلامي هو العقيدة، وهذا يتوافق مع متطلبات الدعوة إلى بناء علم الكلام الجديد، ويعد ذلك مدخلا لتصور ما ينبغي أن يكون عليه الكلام الجديد الذي يخاطب المؤمن المعاصر باللغة التي يفهمها وبالمنهج الذي يصدق به ويجيب عن الموضوعات التي تهمه، ولكي نحقق الهدف من علم الكلام الجديد لابد لنا من العودة إلى ذلك التراث الكلامي القديم، وتلك العودة لا تبدأ من أطر جاهزة نصب فيها ذلك التراث أو نتنكر له، بل نقصد عودة واعية لذلك التراث تقوم على فهمه واستيعابه، ثم عملية الانتقاء والاختيار، وهذه تمثل مرحلة الحذف والإبقاء على ما هو جدير بالبقاء، ثم يعقب ذلك عملية الإضافة، وتنصهر تلك الخطوات بعضها مع بعض لتنشئ لنا علما يمتزج فيه الصالح من الماضي والحاضر معا.
وحقيقة لا مستقبل لمن لا ذاكرة له لكن الذاكرة التاريخية لا تنتج صدفة إنها إنتاج وإبداع ومجاهدة إنها مسؤولية كل جيل والتجديد الذي نراه للفكر الديني أو السياسي أو الأخلاقي من تجليات اندراجنا في عصرنا عملية تقف بين طرفي الانتماء والاستئناف، أي أن التجديد مرحلة مؤدية لانتمائنا من جديد إلى الأمم المؤسسة للحضارة الإسلامية.
العقيدة_علم الكلام _الحضارة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع