مدونة الاستاذ الدكتور مقتدر حمدان عبد المجيد


الرزاعة في رأي ابن خلدون من خلال المقدمة

الاستاذ الدكتور مقتدر حمدان عبد المجيد الكبيسي | Prof. Dr. Muqtadir Hamdan Abdul Majeed


22/06/2020 القراءات: 5492  


أن ابن خلدون نظر إلى الزراعة و النشاط الزراعي نظرة بدوي يعشق الصحراء و تربية الماشية و رعيها و يمقت الزراعة و يذمها . ولم يكتف بذلك بل دعا إلى تركها ، إذ هي عنده مهنة الضعفاء و الخاملين . و ان العمل بها من شأنه ان يؤدي إلى الذل و ما يجره على سوء الخُلق ، و هذه المهنة خاصة بالبدو دون أهل المدينة .
و لكي يؤكد وجهة نظره هذه و يعززها استشهد بحادثة تاريخية مؤداها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل أحد دور الأنصار في المدينة فرأى آلة الحراثة ، فقال : " لا يدخل هذه بيت قوم إلا دخله الذل " .
وبلا ريب فان استشهاد ابن خلدون بهذا الحديث يشير إلى انه كان يمقت مهنة الزراعة ، و لا يشجع على مزاولتها ، و يبدو لي انه لم يكن موفقاً في استشهاده بهذا الحديث الذي لم ينل من الشهرة بين الناس ما نالته أحاديث تخالفه في المعنى واكثر شهرة عند الناس ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" . و كذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ان لا يقوم حتى يغرسها فاليغرسها فله بذلك اجر" . و الأهم قوله عز وجل : " أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ " . فالله سبحانه وتعالى نسب الحرث إلى العبد ، و نسب الزرع إلى نفسه ولم ينسبه إلى العبد و لو كان فيه ذل ما نسبه إلى نفسه سبحانه و تعالى .
و هنا أقول ان الكلام عن الزراعة ، لابد ان نعترف ان الأرض في ذاتها لا قيمة لها ما لم تعمر و تستثمر في الزراعة و تصبح منتجة ، و قد كانت و لا زالت وستبقى عاملاً مهماً من عوامل الإنتاج ، بفضل ما تنتجه من الحاصلات الزراعية التي تشكل المادة الأساسية في حياة الإنسان و الحيوان .
فالحديث الذي احتج به ابن خلدون في ذم الزراعة و الانتقاص من القائمين عليها، ليس معناه كما أراد ابن خلدون ، بل هو ذلك الزرع الذي يشغل أهله عن الجهاد والذود عن بيضة الإسلام ، عندما تتعرض الدولة لخطر ما ؟ . و هو بالطبع غير الزرع الذي يؤجر صاحبه .
و الدليل على صحة رأينا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لديه أحاديث أخرى كثيرة جداً وموثقة ومعروفة بين الناس جميعها تحث على الزراعة أو العمل بها ، منها ما ذكرناه و منها قوله صلى الله عليه وسلم : " من أحيا ارضاً ميتة فهي له " . أي أصبحت ملكاً له بمجرد إحيائها و جعلها منتجة . و كذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يُبارك في ثمن ارض أو دار إلا أن يُجعل في ارض أو دار " .
هذا فضلاً عن ان الزراعة تشكل المصدر الأول لحياة الإنسان و الحيوان ، فقد وجدت هذه المهنة منذ وقت مبكر من وجود الإنسان على وجه الأرض .
و يمكن للباحث ان يربط بين تلك الأحاديث و بين واقع الحال الذي كان يعيشه سكان المدينة (الأنصار) الذين عُرف عنهم نشاطهم في عمارة الأرض واستثمارها، فكانوا يزرعون ويغرسون على نطاق واسع ،وان الرسول صلى الله عليه واله وسلم بادر في إقطاع المسلمين القطائع من اجل استثمار الأرض و جعلها منتجة . و لم تقتصر قطائع الرسول صلى الله عليه وسلم على منطقة المدينة المنورة و إنما اقطع قطائع في الطائف والبحرين وعُمان واليمن . و هذا يُشير بوضوح إلى ان رسول الله لم يأمر المسلمين بترك حرفة الزراعة و إنما كان يحثهم على ذلك . إذ كان صلى الله عليه وسلم يرى انه إذا انصرف بعض المسلمين للجهاد والبعض الآخر للزراعة ، عندئذ يكون عمل المزارع معاونة للمجاهد ، وشداً من أزره ، وفي عمل المجاهد دفع الخطر عن المزارع و تأمين الاستقرار له .
و يتضح أن هذه الأحاديث تؤكد ما ذهبنا إليه ومن هذه الأحاديث ما قاله صلى الله عليه واله وسلم : " افضل الكسب الزراعة فأنها صنعة أبيكم آدم " ، فهو صلى الله عليه واله وسلم هنا فضلها على كل أنواع الكسب . و حديثه الآخر : " اطلبوا الرزق في خبايا الأرض " ، و المقصود بهذا الحديث الزراعة ، و كذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " الزارع يتاجر ربه " .
و يبدو ان ابن خلدون لم يفطن لهذه الأحاديث ، أو انه تجاهلها و أغفلها متعمداً و هذا موقف يُؤاخذ عليه عالم كابن خلدون الذي يحتل منزلة مرموقة لدى الباحثين و الدارسين في مجال التاريخ و علم الاجتماع و الاقتصاد و حتى في الأمور السياسية الذين يرون ان ابن خلدون كان قد اصدر حكماً قاسياً بحق ممتهن حرفة الزراعة التي تعد من الحرف الشريفة والتي لها مساس مباشر بحياة الناس عموماً. و إذا أردنا أن نلتمس العذر لابن خلدون نفترض انه وقع في التباس و وهم في مضمون الحديث النبوي الشريف . و قد يكون هذا اللبس متأت من ان ابن خلدون لم يستوعب هدف الرسول صلى الله عليه وسلم في ذم الاشتغال بحرفة الزراعة وفي أي مرحلة قيل هذا الحديث ؟ و لماذا وردت أحاديث أخرى للرسول صلى الله عليه وسلم مناقضة له ؟ .
و من خلال القراءة المتأنية لما دونه ابن خلدون عن الزراعة ، اتضح للباحث انه قد كون فكرة مسبقة عن العاملين عليها ، فالعشر الذي يدفعه المسلم عن إنتاج زرعه و ثماره هو واجب شرعي و أحد أركان الإسلام الخمسة ، و هذا ما كان يفعله الصحابة (رضوان الله عليهم ) و من في عصرهم ، و لكن بعد ما تحولت الخلافة إلى مَلكية اخذ المشمولون بها يدفعونها بالقوة و القهر و يعدونها مغرماً ، و قد يكون هذا هو الذي دفع ابن خلدون لان يستشهد بقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا الأمر : " لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً " .
فمن المرجح ان يكون انطباع ابن خلدون السيء تولد من ان المُلك العضوض الذي يقهر الناس و يحملهم ما لا يطيقون .
و يبدو ان وجهة نظر ابن خلدون عن الزراعة استنتجها من العصور التي سبقته و من عصره ، إذ ان معظم الأراضي الزراعية التي فتحها العرب المسلمون كانت تترك في أيدي أصحابها يستثمرونها مقابل دفع الخراج عنها . و هذا الخراج بمرور الزمن رافقه تعدي في استحصاله ، و قد يستحصل قبل موعده ، و سواء زرعت الأرض أم لم تزرع ؟ و في العصور العباسية نشأت حالة الضمان الذي بموجبه كانت الأرض تعطى لشخص يتولى جبايتها مقابل دفع مبلغ معين من ال


الرزاعة ، ابن خلدون


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع