مدونة أ.د طارق الصادق عبد السلام الصادق
الحداثة في الفكر الدوركايمي والتاسيس الفكري لفصل الدين عن الحياة العامة
أ.د طارق الصادق عبد السلام الصادق | prof-tarig elsadig abd alsalam
11/10/2020 القراءات: 3475
ملامح المجتمع الحديث والحداثة كما رسمها دوركايم في مجموع أعماله الكبرى، وفي الكثير من الدراسات التي قدمها في فترات مختلفة من تطور حياته الفكرية والعلمية والإيديولوجية كذلك. وتصور دوركايم للمجتمع بين مجموع التصورات التي تشكلت حول الحداثة والمجتمعات الحديثة في نفس الفترة، هو ما يمثل في نظرنا محاولة لتجاوز القراءات الكلاسيكية لمتن كتاباته، التي حصرته وحاصرته في كثير من الأحيان في نظريته للمعرفة التي وإن كنا مقتنعين بأهميتها في اقتحام المتن الدوركايمي، إلا أننا نعتبرها جزءا من المشروع العلمي والمجتمعي لدوركايم، وليس كل المشروع الذي أنجزه.
إن المجتمع الحديث والحداثة من حيث هي أفكار ومفاهيم وتصورات اجتماعية، توجد في كل المتن الدوركايمي حتى المعرفي منه، رغم أنها تقدم نفسها كعمل علمي موضوعي محايد في مؤلفاته تقسيم العمل الاجتماعي والانتحار والأشكال الأولية للحياة الدينية وأعمال دوركايم المتعددة حول التربية، بشكل جلي وواضح، لذلك يمكننا القول أن المجتمع الحديث بالنسبة لدوركايم هو ذلك المجتمع الذي تتمايز بنياته وأفعال الأفراد ومعتقداتهم فيه، إنه المجتمع الذي يقوم على تقسيم كثيف وكبير للعمل الاجتماعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني، في السياسة والاقتصاد والثقافة في المعامل والمصانع ومؤسسات الدولة، إنه المجتمع الذي تضعف فيه العلاقات الأولية مقابل انتعاش كبير للعلاقات الثانوية واللاشخصانية بالأساس. إنه كذلك المجتمع الذي تتحول فيه التربية إلى شأن عام وتحل فيه المدرسة مكان الأسرة، وتصبح فيه الدولة المسئول الأول عن عملية التنشئة الاجتماعية، إن المجتمع الحديث بالنسبة لدوركايم هو المجتمع الذي تقوم فيه الأخلاق والمعاني الأخلاقية على قيم لائكية بحيث تكون قادرة على استيعاب الجميع خاصة وأن كثافة المجتمع الحديث من حيث تنوع الأعراق والديانات والثقافات يجعل من الدين والأسرة كمؤسسات تربوية مؤسسات فاشلة بل مانعة للتربية. أما البعد الثالث في المجتمع الحديث كما تمثله دوركايم، فيظهر في خروج الدين من المجال العمومي، بل وانسحابه من المجتمع بشكل عام، بسبب تقدم المعرفة العلمية التي ستصبح السجل الأول لكل المعارف والمعاني التي يستعملها الأفراد لفهم العالم وتحليله ويظهر جماع ذلك في مقولاته الاساسية التي التي اطلقها مثل شيئية الظاهرة الاجتماعية التي شيأت حتى الدين نفسه وحصرته في الطقوس العملية فقط والعلاقة الخاصة بين العابد والمتعبد.
إذا كانت أعمال دوركايم الإبيستمولوجية قد قتلت درسا ونقدا، وإذا كان بعض الباحثين في العلم الاجتماعي
لا يناقشون الإرث الدوركايمي، إلا من باب نظريته في المعرفة ومن زاوية تصوره للسوسيولوجيا كعلم، والممارسة السوسيولوجية باعتبارها تقليداً علمياً تم تجاوزه أو يجب تجاوزه من حيث أطروحاته الأساسية، فإن بعض أفكاره وتصوراته حول المجتمعات الحديثة وعدد من القضايا الاجتماعية الكبرى التي تحتل حيزاً مهماً في النقاش العلمي والسياسي المعاصر مثل (الدين، التربية، التمايز الاجتماعي، الصراع، الاشتراكية، الدولة، الأخلاق، الأسرة...الخ)، لم تنل حقها بالشكل الكافي من نفس الفعل، إلا من قبل فئة محدودة من الباحثين في علم الاجتماع كرايمون آرون ودانيلو مارتيشولي وهابرماس وآلان تورين ورايمون بودون. وهذا ما يعني بشكل أو بآخر أن الحديث المتداول عن تجاوز السوسيولوجيا المعاصرة، للسوسيولوجيا الدوركايمية في صيغتها المعرفية (الإثنوميتودولوجيا، الفينومينولوجيا الاجتماعية، الفردانية المنهجية، الوظيفية النسقية، البنيوية التكوينية...الخ)، لا يمكن أن يحجب عنا راهنية التصور الدوركايمي للمجتمع الحديث وللحداثة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، سواء من حيث بنية العلاقات والمؤسسات الاجتماعية التي تؤسسها، أو من حيث مكانة الفرد والفعل الفردي داخلها، أو من حيث وجود الدين والعمل والتربية والقيم والأسرة والدولة والقانون.. فيها كقيم حديثة أو كبنيات تختلف من حيث مساهمتها في تشكل المجتمع الحديث ووجوده، أو حتى من حيث الأمراض والإختلالات الاجتماعية التي أنتجتها أو أحدثتها افكار دوركايم في كل مؤسساته وبنياته الاجتماعية على اختلافها وتباين مستويات فعلها
وهو بهذا يعيد المعنى الكلي للاسم الاول الذي اطلقه استاذه اوجست لعلم الاجتماع وهو الديانة الانسانية الكبرى باعتبار ان علم الاجتماع قد ورث مكانة العلم اللاهوتي في المعرفة السابقة له والتي ابعدت بعد الصراع الذي بين العلم والدين والذي انتهى بابعاد الدين لتحل الديانة الانسانية الكبرى"علم الاجتماع" مكانه لذا ابتكر هالة ما سماه بالعقل الجمعي للمجتمع الذي يحل محل الاله.
والمعنى السوسيولوجي للحداثة يتجاوز اعتبارها مجرد حالة وعي يقف عند حدود تأمل العالم وفهمه،أو كما يقول غيرتز - في حديثه عن الثقافة – مجرد أشياء تحدث في الرأس، إنها أكثر من ذلك أشياء تتضمن الرموز والكلمات والآلات والأفعال والأحداث والمعاني والحركات والمؤسسات، إنها تحوي نظرة معينة للزمن، وتصرفا محددا فيه، تمثلا معينا للمجال واستعمالا خاصا له، معرفة محددة بالمؤسسات والتنظيمات والبنيات الاجتماعية، واستهلاك متميز لها.
الحداثة في الفكر الدوركايمي
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع