مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


قطوف من شجرة الهجرة، (1) أ. د. محمد محمود كالو

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


07/08/2023 القراءات: 1556  


قطوف من شجرة الهجرة
لقد كان المشركون يلاحقون تحركات النبي صلى الله عليه وسلم، ويرصدونها بدقة، بل ويعذبون كل من يدخل في هذا الدين الجديد، وصمد الصحابة الكرام سنوات طويلة في مواجهة التعذيب والظلم والاضطهاد، حتى لقد فرَّ قسم منهم بدينه إلى بلاد الغربة، وبقي الباقون يواجهون محاولات فتنتهم عن دينهم، بمختلف وسائل القهر تارة، وبأساليب متنوعة من الإغراء تارة أخرى، حتى رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم أنه هاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ؛ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بيْنَ لَابَتَيْنِ». [رواه البخاري] وَهُما الحَرَّتَانِ،
ورؤيا الأنبياء أمر وحق، قال الله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
والله عز وجل هو الذي اختار يثرب لتكون داراً للهجرة النبوية، وفي الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ»، ‌فَأَسْكَنَهُ ‌اللَّهُ ‌الْمَدِينَةَ. [رواه الحاكم: 4261].
لكن طمأَنه ربه عز وجل بقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، أي: إن الذي فرض عليك القرآن هو الذي سيردُّك إلى مكة، وانظروا إلى اختيار لفظ التطمين لرسول الله: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ}، لماذا لَرَادُّكَ بهذا التعبير بالذات؟! كأنَّ الله تعالى يريد أن يذكِّر رسوله بقوله لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7]، فكما رددتُ موسى إلى أمِّه، سأردُّك منتصرًا مكرمًا إلى مكة.
لذلك كل من زار الحرمين يؤكد أن الجو العام في مكة جو إجلال، بينما الجو العام في المدينة جو جمال، والوظيفة الأولى للمدينة المنورة في الهجرة هي تأمين ملاذ آمن للدعوة الإسلامية، فأيّ مكان يحول بينك وبين عبادة الله تعالى ينبغي أن تغادره، لأن علة وجودنا أن نعبد الله سبحانه، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وكم من مِحنةٍ في طيِّاتها مِنَحٌ، إذ فراق مكة في ظاهر الأمر كان صعباً وأليماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه وقف على الحزوَرةِ وقال: (واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ) [رواه الترمذي]، والحَزْوَرةُ: مرتفِعٌ يُقابِلُ المسعَى.
لكن ماذا كانت النتيجة؟
إن الفراق كان بوتقة تنصهر فيها أسباب نهضة الإسلام وانتشاره وتوطده، فرُبَّ ضارَّة نافعة.
وكذلك هذه المحن العصيبة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم لها ظاهر مُرٌّ وعذاب، وباطنه فيه الرحمة، فالظاهر الجلي مأساة تتقطع لها القلوب، ومحنة ما أظن أن تاريخنا الإسلامي بحلوه ومرِّه سجل مثل هذه الظاهرة الأليمة، هذا هو الظاهر محنةٌ وبلاء، أما الباطن فإنما هو منحةٌ من منح الله عز وجل؛ ليستبين الصادق من الكاذب، ولكي تتمزَّق أقنعة النفاق، فيعرف المؤمن الصادق من غيره.
ومما ينبغي أن نقتطف من شجرة الهجرة، العبرة والعظة كي نطبقه، فالباري سبحانه يكلف عباده المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب، ولكن يأمرهم مع ذلك ألا يجعلوا معتمَدهم إلا على توفيق الله عز وجل ونصره، وألا يلجؤوا بقلوبهم وأفئدتهم إلا إلى الله سبحانه وتعالى، وهكذا لم يدخر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته أن جنَّدَ كل الوسائل المادية التي وضعها الله سبحانه وتعالى بين يديه لإنجاح عمله مهاجرًا من مكة إلى المدينة، ولم يدع مكانًا للحظوظ، فما من ثغرة إلا وقد غطاها، حيث هيأ رجلًا يأتيه بالأخبار، وهيأ رجلًا يمحو خلفه الآثار، وهيأ من يأتيه بالطعام والشراب، وهيأ خطةً تبعد عنه الشبه فاتجه جنوب مكة، واستقر في غار ثور ثلاثة أيام حتى يخف الطلب عنه، وهيأ دليلًا غلب فيه الخبرة على الولاء، وهكذا أخذ بالأسباب كاملة، طاعةً وتعبدًا، ولكنه لم يعتمد على الأسباب كما يفعل أهل الغرب، بل كان متوكلاً على الله تعالى، ولذلك لما وصلوا إليه، وأصبح أحدهم على بعد أمتار منه، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدمه لرآنا"، قال الرسول لأبي بكر مطمئنًا له: "يا أبا بكر، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"، ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]، وهكذا عناية الله تعالى تكون بعد أن يستنفذ العبد كل الأسباب التي جعلها الله متوفرة بين يديه، فإذا انقطعت هذه الأسباب ولم تكن فاعلة، وجد العبدُ النصر الإلهي، أما الاتكال على مجرد الاتصاف بالإسلام قولًا لا عملًا، وأن نطلب النصر دون إعداد ودون أخذ بالأسباب، فكل ذلك لا يحقق شيئًا من النصر المرتجى على الأعداء.


قطوف، شجرة الهجرة، ثاني اثنين، لا تحزن، سكينته،


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع