التداولية بين المؤسسيّ والكرنفالي
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
07/06/2024 القراءات: 818
جرّبْ أن تفتح كتابًا في النظرية التداولية،وانظر كيف ينساب فيه الحديث عن(الشعائر و الطقوس و المراسيم والإعلان و....)و في المقابل كيف يضيق الكتاب بما يتعلق بالأفعال غير الجادة التي تنفلت من قيود المؤسسة والتزاماتها، وهذا ما انعكس فعلًا على طبيعة القراءة التداولية الى اليوم،إذ تفتقر القراءة التداولية إلى أدوات تحليل كثيرة عند مقاربة النصوص غير الرسمية،لا الابداعية فحسب،بل كلّ نصّ شذّ أو ابتعد عن قيم المؤسسة.وعندئذٍ ليس من الغريب القول بأنّ التداولية لا تكتفي بذاتها لمحاصرة النصوص ما لم تستعر من المناهج الأدبية والنقدية الأدوات اللازمة للتحليل.
ارتكزت التداولية على تحليل الكلام بوصفه وقائع منجزة في ظلّ سيادة الاعراف والتقاليد الآخذة صبغة جبرية ،و لم توجّه عناية كافية إلى المظاهر الكرنفالية كالسلوكيات التنكرية و الأفعال العفوية و كلّ المظاهر غير الجادة التي تعكس رغبات الإنسان والمشاعر الذاتية وردّات الفعل الفجائية،على الرغم من أنّ الإنسان كائن احتفالي لا يكون جدّيًّا في سلوكه على وتيرة واحدة.
تعني المؤسسة_في النظرية الاجتماعية_:تلك البنية الثابتة التي تحدد نسبيًّا الالتزامات الاجتماعية والأدوار و العلاقات بين الأفراد و طبيعة صلتهم ببعض،وهذه البنية يؤسسها الناس في وسائل موحدة معترف بها،يُراد بها إرضاء حاجات اجتماعية وتحقيق أهداف ومصالح مشتركة.وفي مقابل المؤسسة يقف مفهوم "الكرنفال" ليعني الاعتراض أو الخروج على الالتزامات المؤسسيّة،فبتأثير من ميخائيل باختين أخذ مفهوم الكرنفالية يستغرق كل السلوكيات غير الجادة التي يقابل بها الإنسان تلك الالتزامات، سواء أكانت هذه السلوكيات نابعة من موقف طبيعي غير مبيّت تجاه الضوابط المؤسسية أم كانت عبارة عن محاكاة ساخرة تجاه تلك الضوابط. وعندئذٍ لا تتحدد الكرنفالية بالاحتفالات الموسمية كما يُفهم من اللفظ، فالكثير من مظاهر الكرنفال تبرز في قلب المؤسسة مستهدفة ركائزها الجوهرية،وإلّا ففي الإنسان ميل طبيعيّ إلى الخروج على مظاهر الضبط والتقنين.
المؤسسة هي التي تنتظم الممارسات في المجتمع من خلال تنميط الأفعال و السلوكيات وتوزيع الأدوار،هكذا نظر (كوفمان) إلى الحياة الاجتماعية بوصفها"مسرحًا" يسعى الفاعلون(=أفراد المجتمع) للحفاظ على أدوارهم في أثناء تقديم ذواتهم(=أثناء التفاعل)فلكلّ فرد أدوار محددة و استجابات محددة،و هذه الأدوار الاجتماعية معدّة مسبّقًا، وحتى ردّات الفعل والاستجابات تكون متوقعة من الفاعلين ،فلكلّ فاعل قدرة على أخذ دور الآخر .
ينظر التداوليون الى اللغة وفق هذه النظرة ولا يختلفون عن الاجتماعيين كثيرًا في طروحاتهم،فاللغة عند التداوليين مؤسسية منضبطة وفق إرادة اجتماعية فرضت جملة من القيود والضوابط القادرة على كبح رغبات الأفراد و عفويتهم و ردّات أفعالهم العكسية تجاه الضوابط ،وفي رأيي ليست التداولية إلا نظرية تعمل على تقنين اللغة و قولبتها بما يلائم القانون والعرف.من هنا اتجه تركيز أوستن وسيرل إلى الأفعال المقيّدة بالاعراف،أي تلك الأفعال التي تُنجز في ظلّ أنظمة جبرية، وهي أفعال لها استجابات محددة و صيغ تعبير متشابهة،مما يعني بطريقة أو بأخرى أنّ نظريتهما تعيد إنتاج مفهوم الجبرية الاجتماعية عند دوركايم،ومفهوم القوة عند ماكس فيبر.وكأنّ هَمّ التداولية منصرف في كليّته إلى احتكار الاستخدام الشرعي للفعل حسب وجهة نظر المسيطر بغضّ النظر عن الأفراد ونزعاتهم وميولهم،و من ثمّ توزيع الأدوار على أساس الطاعة والامتثال للكيان الاجتماعي،إذ المؤسسة في نظر سيرل هي أنظمة من القواعد التكوينية، وكلّ واقعة مؤسسية تسندها قاعدة أو نظام من القواعد، والكلام في ظلّ مؤسسة ما هو إلا إنجاز أعمال وفقًا لتلك القواعد (ينظر: الأعمال اللغوية سورل:٩٤).
إنّ ما يؤخذ على التداولية إخراج السلوكيات غير الجادة من حساباتها،في الوقت الذي يؤكد فيه العالم أنّ السلوكيات غير الجادة تملأه وتسيّره،وأنّ لهذه السلوكيات قدرة على الإنجاز والتأثير بما لا يقل عن قدرة السلوكيات المؤسسية،وذلك لأنّ الإنسان دأبًا يسعى ليثبت إرادته الخاصة في الفعل،على الرغم من صلابة القانون والأعراف والحكم،و في رأيي لم تراعِ النظرية التداولية الجانب الكرنفالي في الفعل الاجتماعي ،ربّما لأنّها على غرار الفلسفة البراغماتية كانت موجّهة إلى حدّ بعيد لتحقق مطالب معينة لصالح قوة ما .
يرى ميخائيل باختين أن الكرنفال كان المتنفس الوحيد للإنسان، والوسيلة الوحيدة التي بها يعبّر عن ذاتيته بمنأى عن الالتزامات الرسمية وحدّيتها، فالإنسان كائن كرنفالي مؤسلب، محاط بالالتزامات الاجتماعية، محدّد بأطُر البيئة،خاضع للسلطة حيثما حلّ وحيثما ارتحل.
وحقًّا،ففي الكرنفال تتحرر سلوكيات البشر من الرقابة،تنفلت خطاباته من عُقُل سلطةِ التراتبيةِ(المركز،الرتبة، السنّ، الممتلكات، فمن خلال الكرنفال((تُعلّق القوانين و الممنوعات والضوابط التي تحدد بنية الحياة الاعتيادية...وأولُ ما يتمّ تعليقه هو البنية التراتبية وجميع أشكال الرهبة والتبجيل والتقوى والأتكيت المرتبط بها،أي تعليق كلّ ما ينتج عن اللامساواة السوسيو- تراتبية،أو أي شكل آخر من أشكال اللامساواة بين الناس... ويتمّ تعليق كلّ مسافة بين الناس...فالناس الذين يكون في حياتهم الاعتيادية منفصلين بحواجز تراتبية لا يمكن تخطيها،يدخلون في اتصال حرّ حميم في ساحة الكرنفال...))(الكرنفال والكرنفالي،باختين:٥٠).
الكرنفالية ضرورة في البشر حالها حال النظام ،فهي حاضرة في كل مسارات حياته، ولولا قوة القوانين وسطوة الاعراف لظهرت السلوكيات الكرنفالية بصورة أكثر وضوحًا،ففي الإنسان روحٌ وثّابة تدفعه دأبًا إلى البحث عن حيلة للهروب من قيود المجتمع، تدفعه دأبًا صوب تصفية الحسابات مع النظام وفروضه ولوازمه و إرغاماته ،إنه يبحث عن متنفس، يتشوق إلى فرصة لكي يحلّ الهزل مكان الجدّ،حتى إذا أتيحت له الفرصة قلبَ عالم المؤسسة رأسًا على عقب:وضع عن نفسه أغلال القانون وإصر الأعراف،
الكرنفال_المؤسسة_التداولية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
شكرا لكل من ساهم في إثراء الموضوع