مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


الحصانة الديبلوماسية سُنَّة نبوية أ. د. محمد محمود كالو

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


01/06/2021 القراءات: 938  


الحصانة الديبلوماسية سُنَّة نبوية

جاء الإسلام بنظامه العادل وتشريعاته القائمة على الاحترام، والمساواة، والكرامة الإنسانية، وشملت نظم الدولة الإسلامية الموفدين، والسفراء، والديبلوماسيين الوافدين إليها بالأمان والسلام طوال مدة بقائهم في بلادهم حتى يعودوا مطمئنين إلى أوطانهم.
إذ من المعلوم في الفقه الإسلامي أن ثبوت الأمان للموفد من قومه، أو دولته إلى بلاط الدولة الإسلامية نافذ المفعول بمجرد دخوله إلى الديار الإسلامية إذا ثبت أنه رسولٌ موفد من قومه ولا يكلّف إقامة البيّنة، لذا اكتفى الفقهاء بالعلامة وهي أن يكون معه كتاب من حاكمِ بلاده، فإذا أخرج الكتاب فالظاهر أنه صادق والبناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته، وهنا لا يُتَعَرَّض لشخصه بسوء حتى يعود إلى بلاده، لأن أمر القتال والصلح لا يتمُّ إلا بالرُّسُل فلا بدَّ من تحقيق الأمان لهم لتحقيق الغرض من إرسالهم.
فقد جاء في كتاب "شرح السير الكبير": "فَإِنْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ الْمَلِكِ دَخَلْت بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّسَالَةِ، أَوْ أَخْرَجَ كِتَابَ الْمَلِكِ مَعَهُ إلَى الْخَلِيفَةِ فَهُوَ آمِنٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ مِنْ الْوُقُوفِ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَجِبُ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ." [شرح السير الكبير، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ)، الشركة الشرقية للإعلانات1971م، صفحة 1789].
وقد تناول الفقهاء - رحمهم الله - مفهوم الحماية والرعاية لهؤلاء فثبتت الأدلة الواضحة على العصمة لدماء الرسل والموفدين والديبلوماسيين وصيانة شخصيَّتهم من أيّ أذى حتى لو اختلفت وجهات النظر في المفاوضة معهم، وتكلم المبعوث الموفد والديبلوماسي القادم إلى أرض الدولة الإسلامية بكلام لا يتفق مع احترام عقائد المسلمين مما يوجب قتلَه أو فشل المبعوثين السياسيين في القيام بمهمتهم، فيظل لهم حق التمتع بالحماية والحصانة حتى يعودوا إلى بلادهم التي يأمنون فيها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة في المعاملة الكريمة والحماية والرعاية العظيمة إذ «لما جَاءَ اِبْن النَّوَّاحَة وَابْن أَثَال رَسُولَا مُسَيْلِمَة إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَا نَشْهَد أَنَّ مُسَيْلِمَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنْت بِاَللَّهِ وَرَسُوله: لَوْ كُنْت قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا. قَالَ عَبْد اللَّه: فَمَضَتْ السُّنَّة أَنَّ الرُّسُل لَا تُقْتَل. » [أخرجه أحمد في المسند].
هذا الموقف العظيم من الرسول صلوات الله وسلامه عليه الذي اتخذه في عدم التعرض لرسل مسيلمة الكذّاب على الرغم من أنهم أقروا بصدق مسيلمة؛ وهو الذي قتل رسولَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم إليه، هذا الحديث شكل الأساس لسياسة عالمية في عدم التعرض للرسل الذين يقومون بنقل المراسلات بين الدول على الرغم من شدة الخلافات بينها، وقد التزم المسلمون بهذه السنة النبوية على مر العصور حتى مع الدول التي كانت تقتل رسلَ المسلمين، كل هذا من أجل سعي الإسلام إلى بناء قواعد السِّلم العالمي وحَلِّ المشكلات بين الدول قبل أن تتطوَّر إلى نزاعات مسلحة، وهذه قضية يجب أن يفخَر بها كلُ مسلم ومسلمة لما كان لها من الأثر الكبير في تطوير العمل الدبلوماسي على مرِّ العصور.
وعندما تطور العمل الدبلوماسي في العصر الحديث نشأت الحاجة إلى تأصيل قواعده وتنظيمه على شكل اتفاقيات دولية فظهرت اتفاقيتي فيينا للعمل الدبلوماسي والقنصلي، وكان حديث الرسول بالنهي عن قتل الرسل هو الأساس الذي صيغت بموجبه قواعد الحماية والحصانة الدبلوماسية في العلاقات الدولية، فعلى سبيل المثال فقد نصت المادة 29 من إتفاقية (فيينا) للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961م "شخص الممثل الدبلوماسي حرمة – فلا يجوز القبض عليه أو حجزه- وعلى الدولة المعتمد لديها أن تعامله بالاحترام اللازم له، وعليها أن تتخذ كافة الوسائل المعقولة لمنع الاعتداء على شخصه أو حريته أو على إعتباره"، كما نصت المواد التالية على حرمة المباني الدبلوماسية مثل السفارات والقنصليات.
لقد قرَّر الإمام السرخسي أن: "الرُّسُلَ لَمْ تَزَلْ آمِنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَ الْقِتَالِ أَوْ الصُّلْحِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرُّسُلِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمَانِ الرُّسُلِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ" [المبسوط: السرخسي، ج10، ص92 - 93، دار المعرفة، بيروت، ط2].
وعلى هذا نهج الحكام المسلمين وولاة أمر الدولة الإسلامية على مر السنين والقرون مسترشدين في ذلك سُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
« أَنَّهُ أَقْبَلَ بِكِتَابٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي لا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ ، وَلا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ، وَلَكِنِ ارْجِعْ ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِي قَلْبِكَ الآنَ ، فَارْجِعْ " ، قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ إِنِّي أَقْبَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَسْلَمْتُ . قَالَ بُكَيْرٌ : وَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ قِبْطِيًّا » [أخرجه أبو داود].
وهكذا سار على هذا النهج المحمدي الإنساني خلفاء وسلاطين وملوك وأمراء وعظماء حكام المسلمين في المحافظة على حماية الموفدين والديبلوماسيين.


الحصانة الديبلوماسية، المساواة، السفراء، القنصل، السفارات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع