مدونة بروفسور دكتور. وائل أحمد خليل صالح الكردي


مأساة دكين.. إنسانية المجرم (رؤية في النقد الفلسفي)

أ.د. وائل أحمد خليل صالح الكردي | Prof.Dr. Wail Ahmed Khalil Salih AlKordi


23/11/2024 القراءات: 88  



مأساة دكين.. إنسانية المجرم

د. وائل أحمد خليل الكردي

التاريخ لم يرحم الإنسان، ولكن الدراما رحمته.. وكذلك رحمت (دكين).
التاريخ لم يرى في (دكين) سوى المجرم الهارب من السجن في عهد خلى وأنه من أجل البقاء قتل أبرياء كُثر.. هو إذاً سفاح لا يشق له غبار، بسرد الوقائع والأحداث وعدد القتلى الذين ذبحهم بيديه. هكذا هو التاريخ بطبيعته الصارمة يعطي وصف الحدث مجرداً، ولكنه لا يصف عتبات التفاعلات الإنسانية في جوف الحدث ووراء ظاهره.
لم تكن (المقدمة المنطقية) الفعلية في تأليف مسلسل (دكين) تحفةً للدراما السودانية في التوثيق التاريخي لسيرة مجرم، وليس هي خلقاً لأحوال التشويق والإثارة كما في سينما (الأكشن) Action بمجريات الواقع السوداني وطريقة الحياة السودانية الكلاسيكية، ولكن كانت في الكشف الإبداعي للبعد الإنساني المثالي في التفاعل المتناقض بين القلب الحي وزناد البندقية.. فكأنما دراما (دكين) تقول لنا (أن الإنسان يبقى كياناً وجدانياً شعورياً مادام حياً).. و(دكين) برغم كونه مجرماً قاتلاً إلا أنه بلغ أوج الشعورية الإنسانية بذلك الألم المحرق لأحشائه والمدمي لعينيه بكاءً عند كل لحظة قتل فيها إنساناً أو تذكر فيها ذلك، حتى بات الحزن سمة وعلامة أصيلة في ملامح وجهه على طول وقائع ظهوره في المسلسل.. لقد عبر (دكين) عن أعلى درجات الإنسانية بضعفه الشديد أمام حب الحياة حتى ولو أراق في سبيل البقاء كل الدماء البريئة محققاً حكم الله فيه (وخلق الإنسان ضعيفاً)، ولو أنه بوجدانه الرقيق هذا كان غير ما كان عليه لما قتل حتى هوام الأرض تحت أقدامه رأفةً وتسامحاً. وهذا الضعف الإنساني هو ما جعل الفيلسوف (نيتشه) يؤسس لأكبر فلسفة في (إرادة القوة) في حين كان هو في شدة من الضعف.. (دكين) كان إنسانياً حقاً بتلك المتناقضات الوجودية النفسية التي يمكن أن تعصف بأي إنسان مرهف تضطره الحياة بضغطها على هشاشة نفسه أن يصير وحشاً جباراً. (هتلر) أيضا كان كذلك، كان مثالاً حياً في زمانه على ذاك الإنسان ذو الرقائق الذي صيرته تحديات الحياة والمظالم في عهد صباه وحشاً بطاشاً للناس في العلن بكاءً متألماً في الخفاء بعيداً عن أعينهم، فهو كان فناناً تشكيلياً ذو كيان دافق بمشاعره.. فويل، إذاً، للعالم إذا قسى قلب الفنان وتوحش.. فما كان بدعاً أن أشعلها (هتلر) هناك حرباً أبادت ملايين البشر.. واشعلها (دكين) هنا عشرات الضحايا ثمناً لحياته، يقتل وهو ينتحب حزنا ويُعتصر تألماً.
لقد وفق المخرج القدير (محمد نعيم سعد) عين التوفيق في اختياره لنجم الرومانسية السودانية الحالم (الهادي الصديق) رحمه الله، ليكون على شخصية (دكين) فرسم التشخيص بتوقيعه حتى بات هو الصورة الذهنية لاسم (دكين) لدى من شاهدوا المسلسل وتفاعلوا به. ولعل التكوين الوجداني الفطري (للهادي الصديق) هو ما جعله الأقدر على الإتيان بمشاعر الأسى والألم والحزن الرومانسي على ملامح وجهه ونبرة صوته، ليكون إبداعاً عبقرياً في الجمع بين هذا التكوين الوجداني وبين سلوك القسوة والوحشية.
هكذا كانت الحبكة الدرامية في هذا العمل تشي لنا برعاية الإنسانية الكامنة في بطن كل مجرم كقيمة عليا، فمهما بلغ مدى جرمه وطغيانه حتماً كانت له لحظات عواطف جياشة، ولربما ران الأسى عليه بظلم الحياة والناس حتى قسى قلبه –أو هكذا ظن- فانحرف عن البشر الأسوياء وكان لزاماً أن يعيدوه سيرته الأولى.
لأجل ذلك، صار (دكين) في المأساة هو عبرة المجرم الإنسان وليس الإنسان المجرم.. ويا ليت كل المجرمين يعلمون.


مأساة ، انسانية ، مجرم ، دراما


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع