التوطئة في أحكام الأوبئة- حكم الصلاة لرفع البلاء
د. طه أحمد الزيدي | Dr. TAHA AHMED AL ZAIDI
16/03/2020 القراءات: 4814
جمع وإعداد : الدكتور طه أحمد الزيدي / عضو الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
فقد اتفق الفقهاء على مشروعية الصلاة عند الفزع وحدوث الآيات الكونية في الكسوف والخسوف، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ، ... فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» (أخرجه البخاري (2/ 34) ومسلم (2/ 618)).
قال النووي: (قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا رأيتموها فافزَعوا للصلاة"، وفي رواية: "فصلُّوا حتى يُفرِّج اللهُ عنكم"، معناه: بادِرُوا بالصلاة وأسرِعوا إليها؛ حتى يزولَ عنكم هذا العارضُ الذي يُخافُ كونُه مُقدِّمةَ عذابٍ". (شرح صحيح مسلم للنووي (6/203)).
ونقل الحافظ ابن حجر عن الطيبيِّ قال: "أُمِروا باستدفاعِ البلاء بالذِّكر والدُّعاء والصَّلاة والصَّدقة"، (فتح الباري لابن حجر (2/531))، فالفزع إلى الصَّلاة عند وقوع البلاء من سُنَّن الأنبياء وقال به العلماء.
ولكنّ الفقهاء اختلفوا في استحباب الصلاة في غيرهما عند الفزع وحصول الآيات الكونية الاخرى، كالزلازل والعواصف الشديدة والفيضانات، وانتشار الأوبئة، فذهب الحنفية ورواية عند الحنابلة الى استحباب الصلاة عند الآيات والفزع وفي رواية أخرى عند الزلزلة الدائمة (بدائع الصنائع للكاساني 1/ 282، الانصاف للمرداوي، 5/ 405 وكشاف القناع للبهوتي، 2/ 66).
وتشرع الصلاة لها عند الحنفية أفذاذا أو جماعة، إذا لم يحملهم الإمام على ذلك فإن جمعهم لذلك فتكون حينئذ واجبة. (حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح، 1/547).
لأن ابن عباس رضي الله عنهما صلى لزلزلة بالبصرة. (أخرجه ابن ابي شيبة في مصنفه 2/472، والبيهقي في الكبرى ، 3/ 343)، وعللوا مشروعيتها لرفع الوباء بأنه أمر يخاف منه.
وذهب الشافعية: إلى أنه يستحب أن يصلي الخائف في بيته، ويتضرع الى الله بالدعاء، عند حدوث الآيات والفزع. (تحفة المحتاج 3/ 65) .
وللمالكية تفصيل: إذ ذهبوا إلى أنه لا يصلى لهذه الآيات مطلقا، لعدم نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء ولم يخلُ عصرهم من شيء من تلك الآيات، وما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما اجتهاد منه في مقابلة النقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (مواهب الجليل للحطاب، 2/200)، وخصّ بعضهم إلى أنه تندب الصلاة لرفع الوباء والطاعون ونحوهما وهذه الصلاة من ذوات السبب وأنه أمر يخاف منه. (حاشية الدسوقي 1/308) .
ونميل الى ترجيح رأي الشافعية والمالكية، الى جواز أن يصلي المسلم في بيته تطوعا بسبب انتشار الوباء وحصول الفزع والأمر الشديد، لقوله تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (سورة البقرة: 45)، ذكر الطبري: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (تفسير الطبري، 1/14، وقال الشيخ احمد شاكر في تخريجه: اسناده صحيح).
وجه الدلالة : الاستعانة بالصلاة على الأمر الشديد، وهذا ما فهمه علماء الصحابة كابن عباس رضي الله عنهما، من الآية فبادروا الى الصلاة، والوباء نازلة وأمر عظيم ينزل بالمسلم وأهله وبالمسلمين، فيشرع للمسلم أن يفزع للصلاة عند نزوله وخشيته منه.
وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى» (أخرجه ابو داود ، 2/35، واحمد 38/330، وحسنه الالباني، ومعنى حزبه : أي نابه ونزل به أمر شديد).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "وفيه أن مَن نابه أمرٌ مُهِمٌّ مِن الكرب ينبغي له أن يفزَع إلى الصَّلاة"، (فتح الباري لابن حجر،(6/394)).
وعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى هَمَسَ شَيْئًا، لَا نَفْهَمُهُ، وَلَا يُحَدِّثُنَا بِهِ، ثمّ حدثهم فَقَالَ: " فَإِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.. فَقَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَكَانُوا إِذَا فَزِعُوا، فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللهُ ".(اخرجه أحمد 31/ 268، و39/349، وصحح اسناده الضياء في المختارة 8/60.
قال السندي: وكانوا إذا فزعوا يفزعون إلى الصلاة، أي عادتهم الاشتغال بالصلاة في الشدائد. (هامش المصدر السابق)، وهذا شرع من قبلنا وافقه شرعنا، فهو شرع لنا.
ومما لا شكّ فيه أنّ نزول الوباء ببلد فيه المسلم وفزع من أن يصيبه وخشي على نفسه ، جاز له أن يفزع الى الصلاة، وإنما لم نقل تصلى جماعة، لأنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء من بعده أن صلوا لذلك جماعة، وإنما يفزعون للصلاة منفردين عند الخوف ونزول الشدائد بهم.
فإذا أمر الحاكم الشرعي أو العلماء الثقاة ولاسيما المجامع الفقهية ودور الإفتاء المعتبرة، بإقامة الصلاة لرفع الوباء، فالأخذ برأي السادة الحنفية وبعض المالكية له وجاهته، ويكون من باب طاعة الإمام في مسألة اجتهادية، ومعلوم أن حكم الإمام يرفع الخلاف ولاسيما إن رأى مصلحة في ذلك لا تخالف نصا قطعيا، وتصرف الامام على الرعية منوط بالمصلحة، وطاعة العلماء فيما لا يخالف الشريعة معتبر شرعا ولاسيما إن صدر عن تشاور واجتهاد جماعي.
وبناءً عليه: فلا مانع من الاجتماع للصَّلاة والدُّعاء فيها والتَّضَرُّع إلى الله تعالى، عند الدعوة إليها من أولي الأمر؛ من أجل دفع البلاء ورفع الوباء إن حلّ بأرض المسلمين (كَوَبَاء كورونا) في زمننا هذا.
احكام كورونا- احكام الاوبئة- نوازل صحية- فتاوى- الصلاة لرفع الوباء
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة