مدونة ا.م.د. رجاء خليل الجبوري


الاحتواء التربوي: صناعة الأرواح قبل العقول

ا.م.د .رجاء خليل الجبوري | Assist Prof Dr Rajaa .K. Aljubore


25/03/2025 القراءات: 6  


لم يكن التعليم يومًا مجرد عملية تلقين للمعلومات، بل هو بناء الإنسان بكل ما يحمله من فكر وعاطفة وطموح. ومع ذلك، لا تزال الكثير من النظم التربوية تركز على العقل وحده، متجاهلة الجانب العاطفي والاجتماعي للطالب، مما يجعله مجرد متلقٍ للمعرفة لا شريكًا في صنعها. هنا يأتي مفهوم الاحتواء التربوي ليعيد التوازن إلى العملية التعليمية، حيث يصبح الطالب كيانًا متكاملاً يتم الاعتناء به فكريًا وعاطفيًا، فتتحول المدرسة من مجرد مؤسسة تعليمية إلى بيئة حاضنة قادرة على احتواء أحلام الطلاب وهواجسهم، ومساعدتهم على التطور دون خوف أو قيود.

ما معنى الاحتواء التربوي؟
الاحتواء التربوي لا يعني مجرد التساهل مع الطلاب أو تقبل أخطائهم دون تصحيح، بل هو نهج تربوي عميق يقوم على فهم احتياجات المتعلمين المختلفة وتقدير مشاعرهم والتفاعل معهم بوعي وتعاطف. إنه القدرة على النظر إلى الطالب ليس كمجرد رقم في قائمة الحضور أو نتيجة في امتحان، بل كفرد يحمل داخله مزيجًا من التحديات والطموحات والمخاوف التي تحتاج إلى من يسمعها ويفهمها.
فالطالب الذي يشعر بالاحتواء هو الطالب الذي يجد في معلمه شخصًا قادرًا على الاستماع إليه دون إصدار أحكام، وعلى دعمه دون أن يشعره بالضعف. وهو الطالب الذي لا يخشى الفشل لأنه يدرك أن الفشل مجرد محطة في رحلة التعلم، وليس وصمة عار أو مقياسًا لقيمته الشخصية. فالاحتواء هو أن نجعل الطالب يؤمن بنفسه، حتى عندما يشك في قدراته.

لماذا نحتاج إلى الاحتواء التربوي؟
إن الحاجة إلى الاحتواء التربوي أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، خاصة في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها العالم اليوم. فالطلاب لا يعانون فقط من الضغوط الأكاديمية، بل يواجهون أيضًا تحديات نفسية واجتماعية معقدة، من القلق والاكتئاب إلى ضغوط التوقعات المجتمعية وصراعات الهوية. في مثل هذه الظروف، لا يمكن للمدرسة أن تكون مجرد مكان لتلقين المعلومات، بل يجب أن تتحول إلى مساحة آمنة يستطيع فيها الطلاب التعبير عن أنفسهم بحرية دون خوف من النقد أو العقاب.
علاوة على ذلك، فإن التعليم في بيئة تفتقر إلى الاحتواء غالبًا ما يؤدي إلى نتائج عكسية. فبدلاً من تحفيز الطلاب على التعلم، قد يشعرون بالإحباط وفقدان الحافز، مما ينعكس سلبًا على أدائهم الأكاديمي وسلوكهم العام. كما أن غياب الاحتواء يزيد من احتمالات التسرب المدرسي والعنف داخل المؤسسات التعليمية، حيث يشعر الطلاب بأنهم غير مفهومين أو غير مرحب بهم. على العكس، عندما يتم احتواء الطلاب ودعمهم نفسيًا وعاطفيًا، فإنهم يصبحون أكثر قدرة على مواجهة التحديات بثقة ومرونة، وأكثر استعدادًا للمشاركة الإيجابية في مجتمعهم.

كيف نحقق الاحتواء التربوي؟
يتطلب تحقيق الاحتواء التربوي إعادة التفكير في الطريقة التي نتعامل بها مع الطلاب داخل الفصول الدراسية. بداية، يجب أن يكون المعلم نفسه مؤمنًا بهذه الفلسفة، قادرًا على تطبيقها عمليًا من خلال سلوكه اليومي وتعامله مع طلابه. وهذا يعني أن يتعلم كيف يستمع إليهم بانتباه، ويشجعهم على التعبير عن أفكارهم، ويدعمهم دون أن يشعرهم بالضعف أو الحاجة إلى إثبات قيمتهم باستمرار.
كذلك، يجب أن تكون البيئة المدرسية مشجعة على الاحتواء. الفصول الدراسية يجب أن تتحول إلى مساحات آمنة نفسيًا، حيث لا يُنظر إلى الخطأ على أنه فشل، بل على أنه فرصة للتعلم. الطلاب يجب أن يشعروا بأنهم قادرون على طرح الأسئلة دون خوف من السخرية، وعلى الاعتراف بضعفهم دون خشية العقاب.
إضافة إلى ذلك، يجب أن تُدمج قيم الاحتواء في المناهج الدراسية نفسها. فبدلاً من التركيز فقط على المعلومات الأكاديمية، يجب أن تشمل المناهج موضوعات حول الذكاء العاطفي، والتواصل الفعّال، وحل النزاعات، والتعاطف مع الآخرين. هذه القيم لا تقل أهمية عن الرياضيات أو العلوم، لأنها تساعد في بناء أفراد قادرين على التعامل مع الحياة بتوازن وحكمة.
من المهم أيضًا أن تمتد فلسفة الاحتواء إلى العلاقة بين المدرسة والأسرة. فالتربية لا تنحصر في أسوار المدرسة، بل هي عملية تشاركية بين البيت والمجتمع. عندما يعمل الأهل والمعلمون معًا لدعم الطفل، فإنهم يخلقون بيئة متكاملة تساعده على النمو بثقة واستقرار. يجب أن يكون هناك تواصل مستمر بين المدرسة وأولياء الأمور، حيث يتم تبادل المعلومات حول التحديات التي يواجهها الطلاب وسبل مساعدتهم بشكل أفضل.

أثر الاحتواء التربوي على مستقبل الطلاب،،
عندما يتم تطبيق الاحتواء التربوي بفعالية، فإنه لا يترك أثرًا فقط في التحصيل الأكاديمي للطلاب، بل في حياتهم بأكملها. فالطلاب الذين ينشأون في بيئة تحتضنهم وتتفهمهم يصبحون أكثر قدرة على التعامل مع التحديات المستقبلية بثقة وهدوء. كما أنهم يطورون مهارات اجتماعية أفضل، حيث يتعلمون كيف يتعاطفون مع الآخرين ويتعاملون معهم باحترام وتقدير.
على المستوى المجتمعي، فإن نشر ثقافة الاحتواء في المدارس يساهم في بناء جيل أكثر وعيًا وتسامحًا، قادرًا على التعاون والعمل الجماعي بطريقة إيجابية. فالاحتواء يعلم الطلاب أن كل فرد يستحق الاحترام، بغض النظر عن خلفيته أو قدراته، مما يعزز من قيم التعددية والتفاهم في المجتم

وأختاما ً الاحتواء التربوي ليس رفاهية، بل ضرورة تربوية لا غنى عنها في عالم أصبح أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. إنه الفارق بين طالب يذهب إلى المدرسة خوفًا من العقاب، وطالب يذهب إليها شغفًا بالتعلم. بين طالب يشعر بأنه مجرد رقم في نظام تعليمي جاف، وطالب يشعر بأنه فرد ذو قيمة يُحتفى به ويدعم في رحلته نحو تحقيق ذاته.
إن بناء بيئة تعليمية قائمة على الاحتواء يعني أننا لا نعلم طلابنا فقط، بل نصنع جيلًا أكثر وعيًا وثقة وإبداعًا. فهل نحن مستعدون لجعل مدارسنا أماكن تحتوي القلوب قبل العقول، وتحتضن الأحلام قبل الدرجات؟


الإحتواء، الذكاء العاطفي ، البيئة الآمنة ،


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع