مدونة سعد رفعت سرحت


يُفكّرُ باللهجة ويكتبُ بالفصيح...رحم الله كريم العراقي

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


01/09/2023 القراءات: 1288  




رأى المستشرق الفرنسي هنري كوربان أنّ مفكري الإسلام(غير العرب)كانوا يفكرون بلغاتهم الأم ويكتبون بالعربية،في إشارة منه إلى أنّ الفلسفة الإسلامية فلسفة لا تمت إلى العرب بصلة، إنْ هي إلّا نتاج فلاسفة مسلمين من جنسيات مختلفة.


وهذا قريب ممّا ذهب إليه بعض الباحثين العرب المعاصرين في حديثهم عن أبي تمام وابن جني وعبد الحميد الكاتب رحمهم الله،بالنظر إلى أنّ المفكرين يتأثرون بلغاتهم الأمّ بطريقة تلقائية،ويعانون ضغطًا وإلحاحًا من لغتهم الأم عند الكتابة،و ليس بمستطاع اللغة الرسمية أن تخلصه من خلفيته الثقافية.


هذا الرأي _على غرابته،وعلى ما فيه من إعمام_ قد يكون مقبولًا إلى حدّ ما،لاسيّما عند من يجيد لغتين أو أكثر،أو عند من أخذ لغة أخرى على كبر فيظلّ يفكرّ بلغته الأمّ في الوقت الذي يكتب فيه باللغة الرسمية.


ما يهمّنا في هذا الرأي إمكان أن يكتب الإنسان بلغة تكون ترجمة للغة أخرى،أو أن يكتب بالفصيح وهو يترجم تفكيره بالعامية،وأعتقد أنّ شاعرنا كريم العراقي_رحمه الله_أحد أولئك الذين لم يستطيعوا التخلي عن اللهجة عند كتابة الشعر،إذ ظلّت اللهجة حاضرة في مداركهم وجدانهم.


إنّ(التفكير باللهجة والكتابة باللغة)و(التفكير بلغة والكتابة بلغة أخرى)من المسائل التي قلّما يتطرق إليها النقاد في دراساتهم، على الرغم من أنّها أصبحت واقعًا،و إلّا فمن منّا لم يفكر بلهجته حين يكتب باللغة الرسمية؟.


أرى أنّ ما يمنع النقاد من الخوض في هذه المسألة هو الخوف من أنْ يُتّهموا بالدعوة إلى العامية،و هم لا يُلامون على امتناعهم،فقد أصبحت(فلان يدعو إلى العامية)تهمة جاهزة تلصق بالنقاد واللغويين بمجرد أن يخوضوا في العامية بأيّ شكل من الأشكال.


كان للنقاد إزاء هذه المسألة رأيان:منهم من يرى أنّ تقريب لغة الشعر من اللهجة يُدخل شعره في ((حالة وعي منخفض تشدّ به الى الأسفل دائمًا،وتعيقه عن الارتفاع الى حضارة اللغة))[نقد الشعر في المنظور النفسي:٦٥]. ومنهم من يتسامح تبنّي الشاعر لغة الحديث اليومي بكل حرارتها وتوترها لتكون لغة الشعر[ينظر:قضايا النقد والحداثة:١٩٠]



إنّ التفكير باللهجة والكتابة بالفصيح أحد أهم سمات الشفاهية المعاصرة،ولا يُراد بذلك أن ينزل الشاعر بشعره الى المستوى الشعبي بصورة سافرة،بل المراد أن يعتمد الشاعر في لغته على أطر الحياة اليومية بحيث يفهمها عامّة الناس، وإلّا فإنه يستعين بكلمة أو كلمتين من معجم الشعب ، أو يحور الأمثال الشعبية،أو يذوّب حكايات الأسلاف وأغاني"الجدّات" في القصيدة.أو قد تتجاوز لغة الشاعر ذلك الحدّ وتتّجه صوب مراعاة الحالة الفكرية عند الشعب باستعمال لغة معهودة عند عامتهم تعكس_إلى حدّ ما_ بساطتهم و وقائع حياتهم و متوسط وعيهم،بحيث لا يقدم أحدهم وهو يسمع القصيدة على التفتيش عن معنى ألفاظها وتراكيبها،فإنْ وُجدَت لفظة غامضة فإنّها ستفسّر بما يليها،وإلّا فما الضير لو خرجنا من القصيدة و بقيت لفظة واحدة غير مفهومة أو صورة شعرية واحدة غير مفهومة؟!.فحسب الشاعر أنْ يجذبنا في كل بيت أو جملة شعرية بلفظة من معجم حياتنا اليومية،أو بصورة تعكس واقعنا أو تذكرنا به.


تأملْ معي أيها العراقي وأنت تسمع/تلمح كلمات هذين البيتين:
أنا منذ فجر الأرض ألبس خوذتي
ووصيه الفقراء فوق نطاقي
أسمع صهيل الحزن بين مفاصلي
أضحى صديقي كنيتي ميثاقي


(خوذتي/نطاقي/كنيتي/ميثاقي)ولكن قبل أن تخبرني عن حالتك الوجدانية أخبرني عمّن عاش فترة الثمانينيات والتسعينيات، أخبرني عن حالته وهو يتلقّى هذه الكلمات؟.


التفكير باللهجة والكتابة باللغة كريم العراقي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع