أين يعيش معظم الناس اليوم؟!
مها محمد علي شرف | Maha Sharaf
07/08/2021 القراءات: 4805
كنت غارقاً بتصفح أسماء الموتى على صفحة محلية أتابعها كل يوم، كونها تنشر كل ما هو جديد في هذه المدينة التي تعج بالحياة، هي ليست صفحة لجريدة أو صحيفة ورقية بل إلكترونية، فعمر الورق مات، وأصبح في عداد الموتى، لا أحد يتحرش به إلا نادراً، بعد أن حل محله كل ما له صلة بالشاشات الصغيرة، فذاك الزمن الذي كان أبي ووالدك ينتظرون به جريدة الصباح، كانتظار شعب يشكو العوز على طابور لتسليم الخبز، ولى وغدا ذكريات، فمشهد أبي وهو يراجع صفحات الجرائد واحدة تلو الأخرى، والتي كان ينهيها بساعة من الزمن وأحياناً بساعتين، ولا يبقي منها إلا الكلمات المتقاطعة التي يتركها لنا، لأنه يعرف أن هذه اللعبة المسلية تزيد من ثقافتنا قليلاً قد أصبح مشهدا كلاسيكي قد تستفيد منه إن أردت تأليف مسلسل أو فلم لإعادة مجريات حقبة من الزمن، لا أريد الإطالة ولكن الذي أعاد لذاكرتي وذلك الروتين الثقافي الذي لا يكاد يخلو منه بيت، ليس الحنين المثقل بالشوق لتلك الأيام، بل لنقطة توقفت عندها وهي أن العالم الآخر كان يحصر في صفحتين كبيرتين على الورق بطول وعرض لا يتجاوز الخمسين سم. تتعقب كل صغيرة وكبيرة فيهن.. وأحيانا تكتفي بقراءة ما يروق لك فقط.. في وقت لا يتعدى الساعة.. أما الآن فأنت تشاهد العالم بشاشة صغيرة لا تتجاوز الخمسة سم أو العشرة سم.. فالفرق كبير بين الأمس واليوم من حيث الحجم ولكن من حيث المضمون ليس هناك أي تكافؤ.. فهذه الشاشة الصغيرة تأخذك إلى عوالم خفية لم تسمع بها من قبل.. تعطيك الجميل والقبيح.. الحلو والحامض.. الهادف والمستهدف.. الغريب والعجيب.. فأنت تجوب كل يوم العالم بعربتك (المحمول) إلى أي مكان تريده.. تسافر عبر الزمن بلا تذكرة طيران ولا حتى طائرة.. تغور في هذه العوالم من غير توقف.. أحيانا لساعتين وأحيانا لنصف يوم وأحيانا ليوم كامل ليله مع نهاره.. ولكن ما أن تسافر لا تستطيع الرجعة.. تفتنك المغريات والشهوات.. تصطادك المنتديات والمواقع والمنصات.. لا تعرف من يستضيفك.. وكيف دخلت إلى قعر داره.. حتى أنك تحضر الأعراس وأعياد الميلاد.. وتدعو للمرضى بالشفاء.. وتؤدي واجب العزاء لمأتم لا تعرف من هو ميتها.. وفي النهاية تنام مرهقاً لفرط ما قمت به من زيارات لتلك المناسبات.. يداك متشنجتان..وعيونك محمرة من توهج الشاشة وعنقك ملتوي من التشدق والمتابعة.. ونسيت أيها المغامر المسكين أنك تعلق وتغرد وتكتب لأناس ليس لك أي صلة بهم.. ونسيت أن أمك التي طلبت منك أن تصلح لها مقبض الباب قد أجّلته إلى ما شاء الله.. أختك التي تشتاق لسماع صوتك.. أصبحت لا تراك إلا في المناسبات وأحيانا تكتفي بالاتصال فقط عليها .. جارك لا تراه إلا في المآتم والنائبات.. جارك الآخر الذي كان ينتظر الجميع لمشاركته فرحه في عرس ابنه الوحيد لم يحضر فرحه إلا بعض الصبية الصغار وبعض الأقارب المقربون فقط.. ووو.. كلهم نسيتهم وأحكمت خلفك باب الصلة والترابط جيداً.. حتى لا يعاود أحد من محاولة فتحه.. لتبقى غارقاً في عالم افتراضي.. سرق منك محفظة حياتك ودسها في جيبه.. تركك تلهث خلفه بلا توقف.. فإن كنت تدّعي الحصول على الثقافة منه.. فالثقافة لا تتأتى إلا للعاقل الذي يحسب وقته بإتقان .. فالوقت اليوم أصبح رمادا.. نُثر في عمق الأرض.. فزمن (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) غدا ترهات وأقوال نتمعن بها فقط من غير أن نحولها لأفعال بعد أنغماسنا بآلات حولتنا إلى روبوتات غبية.. نقتاد خلفها بجنون وعنجهية.. فبذرنا وقتنا في كل السهول والوديان.. حتى أصبحت حياتنا مجرد عوالم خيالية.. ليست لها أي علاقة بحياتنا الحقيقية.. تركنا الدنيا تختار لنا قدرنا.. ولم نسأل أين نعيش اليوم؟ ولم نعد نفكر بأي مستقبل ولا وطن يحتاج لرجال يفكرون به.. يغارون على مصالحه.. يسهرون على معاركه.. وكأننا خلقنا لنأكل ونموت في نهاية المطاف.. لم ندرك أننا نسير في قافلة الموت.. التي يوماً ما ستقلنا إلى محطة النهاية.. وسيكتب اسمنا مثل تلك الأسماء التي نقرأها كل يوم.
عالم افتراضي - جرائد - الوقت - واقعنا اليوم.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
راقني كثيرا ما كتبته، لقد غصت في حقيقة اليوم وحقيقة البشر الافتراضيين