أ . د. هاشم حسين ناصر المحنك


أسواق الكوفة في العهد الراشدي

البروفيسور الدكتور هاشم حسين ناصر المحنك | Prof. Dr. Hashim Hussain Nassir AL – Muhannak


05/03/2023 القراءات: 1799  


أسواق الكوفة في العهد الراشدي
للأسواق التجارية الأهمية البالغة لبناء الاقتصاد الوطني ، فمن خلالها يتم الاتصال بالمستهلك لإشباع حاجاته المباشرة وغير المباشرة ، وستكون لنا وقفة على ما يخص الأسواق في الكوفة ، وفي دراسة قادمة ومكملة إن شاء الله على ما يخص التداول النقدي ..
فالأسواق قبل الإسلام كانت قائمة وبشكل فاعل في الحيرة ، لوجود التجارة الداخلية والخارجية لدولة المناذرة ، فضلاً عن كون قيام صناعات متنوعة فيها ؛ كالسجاد الفاخر مثلاً ..
وتتُعد الحيرة محطة تجارية كبرى بين بلاد فارس والهند وبين الشام وبلاد الروم ، وأخذت الحيرة شهرتها في تاريخ العرب وأدبه تَنمُّ عن مكانتها التجارية ، ولقريش رحلات إلى أسواق الحيرة ، وفيها حتى تعلموا الكتابة ، ومنها انتشرت في العرب ..
وبعد انتشار الإسلام وما تم من فتوحات ، وبعدها ما تم من تمصير الكوفة في عهد عمر بن الخطاب ، فأول شيء خط بالكوفة ، المسجد الكبير ( مسجد الكوفة ) الذي قام بجواره الأسواق ، وكان وجودها قبل اختطاط المسجد ، وبطبيعة الحال لا تُقام الأسواق التجارية إلاّ إذا كان هناك حركة اقتصادية ؛ من بيع وشراء وتبادل تجاري وصيرفي ، ويذكر الشيخ الحموي في معجم البلدان ، بأنّ الدهاقين قد أسهموا في نصح المسلمين وأقاموا لهم الأسواق .
وأخذت الأسواق ، في بداية تكوينها ، شكلاً وتطوراً ، حيث أول ما ظهرت في المدينة ، لكن لم يسمح ببنائها إلاّ بمرور ردح من الزمن ، وقد أثنا ( المقدسي ) على أسواق الكوفة لسعتها وتنظيمها ونشاط الحركة التجارية فيها ، فضلاً عن إنها ملتقى القوافل التجارية .
ويذكر الطبري بأنها كانت على شبه المساجد ، مَنْ يسبق إلى مقعد فهو له حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه ، وأخذ طابعه هذا بالخصوص في عهد الخليفة عمر ، وبمرور الزمان أصبحت مغطاة بالحصير ، وعلى عهد خالد القسري ، تم عقده بالحجارة ، حتى كان في هذه الأسواق " محكمة للقضاء " ، يجلس فيه المحتسب ، وتشمل الأسواق حتى الصيارفة والمُسلفون ، وفيها دكاك العبيد ومحلات المراهنين على الحيوانات يجمعونها في الكناسة ؛ والكناسة تقع من ناحية البادية بين مسجد الكوفة ومسجد السهلة ..
وأخذت الأسواق في الكوفة ، الطابع التخصصي لها ، وهو ما توضحه كتب التاريخ ، فكانوا التمارين وأصحاب الصابون وغيرهم ، وهو ما كان يُسهِّل مهمة الإشراف الحكومي عليهم ، كما إنّ التاجر الجشع لا يستطيع أن يرفع سعر السلعة ، خشية من منافسة التاجر المجاور له ، فضلاً عن محدودية حدوث الاحتكار أو أي ارتفاع غير طبيعي في أسعار السلع ، ويكون للمشتري فرصة اختيار الأنسب والأجود لِما هو بحاجته ..
ولأهمية الأسواق وعلاقتها بالحركة الاقتصادية والاجتماعية ، فقد ظهرت الحسبة بظهور الإسلام وانتشاره ، ومن خلال مهام الحسبة ومتابعتهم ، يتم مراقبة الغش في الطعام والأثمان والمكاييل والموازين .. والرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد استعمل سعيد بن سعيد بن العاص لرقابة السوق في المدينة ، أي إنها كانت نظام الحسبة من أيام الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتواصل إتباعه حتى من بعد الخلفاء الراشدين لحماية الناس والمستهلك ، وحماية انسيابية الحركة التجارية ، وتقويم سلوكية التجّار ، وحماية التجّار من جشعهم ..
وفي كتاب أخبار القضاة ؛ ( وكيع – محمد بن خلف ) ، كان أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يتفقد بنفسه أسواق الكوفة أبان خلافته ، ويحث التجار على أن لا يظلموا الناس ولا يغشوهم ولا يُدلِّسوا عليهم ، ومن خلال هذا الجانب يتضح بأنّ الإمام علي (عليه السلام) كانت رقابته على الأسواق رقابة مركزية ومباشرة ، ويتم توجيه التجار على ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم وما ينفع الناس ، وما يبني عامل الثقة والعلاقات الإنسانية والمنفعة المتبادلة ، والحيلولة دون استغلال المشتري والمستهلك ..
وأخرج أبو عبيد في الأموال عن الأصبغ بن نباتة قال : خرجت مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى السوق ، فرأى أهل السوق قد تجاوزوا أمكنتهم فقال : ما هذا ؟ قالوا : أهل السوق قد جاوزوا أمكنتهم ، فقال : أليس ذلك إليهم سوق المسلمين لمصلّى المصلين ؟ من سبق إلى شيء فهو له يومه حتى يدعه . ويذكر أيضاً بأنّ الإمام علي (عليه السلام) قد خرج من القصر وعليه قبطيتان أزار إلى نصف الساق ورداء مشمر إلى قريب منه ومعه درة له يمشي بها في الأسواق ويأمر الناس بتقوى الله وحسن البيع ، ويأمر أهل السوق أن يوفوا الكيل والميزان وأن لا ينفخوا اللحم ..
ويُضاف إلى ما تقدّم بأنه (عليه السلام) كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويأمر أن يبيعوا ولا يحلفوا ، فإنّ اليمين ينفق السلعة ويمحق البركة ، وعندما رأى خادم لا أمر له ، يريد إعادة ما اشتراه من تمر إلى بائع ويأبى البائع ذلك ، حكم لمن أمر له ( الخادم ) ، وأمر البائع إعادة ما باع الخادم من تمر .
وموقف آخر للإمام علي (عليه السلام) يبين كيف يكون نشاط السوق ، وكيفية علاج ذلك الموقف ، حيث يذكر ابن كثير في كتاب البداية والنهاية : بأنّ الإمام علي (عليه السلام) يمشي في الأسواق وحده وهو الخليفة يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ ( تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) سورة القصص ، ثم يخبرهم (عليه السلام) بأنها نزلت في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة على سائر الناس ..
ويأمرهم بالتفقه لكي لا يقع التاجر أو البائع في إشكال شرعي وفي غير مواقع التجارة ، فيكون مرابياً أو محتكراً أو غاصباً لحقوق الآخرين ، سواء كان بقصد أو بغير قصد ، ويوعيهم بأنّ ( مَنْ اتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا ) .. ويأمرهم بأن يطعموا المساكين لينمو كسبهم الدنيوي والأخروي ..


أسواق الكوفة التاريخية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع