باحث طه ياسين محمد الزيباري


مفهوم وحكم المدح والرياء الإلكتروني في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

باحث / طه ياسين محمد الزيباري | Taha Yaseen Mohammad Zebari


24/02/2025 القراءات: 26  


المقدمة:
في عصر التكنولوجيا الرقمية، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفراد، حيث يقضي الملايين ساعات يوميًا في مشاركة الآراء والتفاعل مع المحتوى. هذا التحول الرقمي أفرز مفاهيم جديدة مرتبطة بالسلوكيات الدينية والأخلاقية، مثل "المدح الإلكتروني" و"الرياء الإلكتروني"، والتي تُعد امتدادًا لظواهر قديمة بأشكال معاصرة. ففي حين يُعتبر المدح سلوكًا اجتماعيًا طبيعيًا، فإن تحويله إلى ممارسة رقمية جماعية يطرح تساؤلات حول حدود المشروعية، خاصة عندما يتعلق بثوابت العقيدة الإسلامية مثل الإخلاص والنية.
لذا، يتطلب فهم هذه الظواهر وتحليلها الرجوع إلى مصادر التشريع الإسلامي الأساسية: القرآن الكريم والسنة النبوية، لفهم الضوابط الشرعية التي تحكم السلوك الرقمي، وتجنب الوقوع في المحظورات التي قد تُبطل الأعمال أو تُفسد القلوب.
أولًا: التعريف بالمفاهيم
1. المدح الإلكتروني:
هو التعبير عن الإعجاب أو الثناء عبر المنصات الرقمية، مثل استخدام زر "الإعجاب" أو كتابة تعليقات إيجابية أو مشاركة المحتوى. قد يكون هذا المدح مشروعًا إذا كان صادرًا عن صدق وهدفه تشجيع الخير أو نشر الفائدة، كمدح مبادرة إنسانية لمساعدة المحتاجين. لكنه يُصبح مذمومًا إذا تضمن كذبًا (كمدح سلعة رديئة للترويج لها) أو إفراطًا (كالمبالغة في مدح شخص لدرجة تغذي الغرور).
2. الرياء الإلكتروني:
هو إظهار العبادات أو الأعمال الصالحة على المنصات الرقمية بقصد كسب الشهرة أو الحصول على مديح المتابعين، كمن ينشر صورًا لصدقته أو تفاصيل صلاته ليُظهر تقواه. وهذا السلوك يُعد من "الرياء" المحرم شرعًا، لأنه يُفسد النية ويجعل العمل خاليًا من الإخلاص لله، مما يُبطل الأجر.
ثانيًا: الحكم الشرعي في ضوء القرآن الكريم
1. ذم الرياء ووجوب الإخلاص:
أكد القرآن الكريم أن قبول الأعمال مرتبط بالإخلاص، فقال تعالى:
﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5].
هذه الآيات تُشير إلى أن الرياء – ولو كان عبر منصات رقمية – يُعد شركًا خفيًا، لأنه يُخلط بين عبادة الله وطلب رضا الناس.
2. تحذير من الأعمال المزيفة:
شبه الله تعالى أعمال المرائين بالسراب الذي يخدع الظمآن:
﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النور: 39].
هذا التشبيه يُبرز زوال قيمة الأعمال الظاهرية التي تفتقر إلى الإخلاص، مهما بدت براقة في أعين الناس.
ثالثًا: الحكم الشرعي في ضوء السنة النبوية
1. الرياء من الشرك الخفي:
حذر النبي ﷺ من خطورة الرياء، فقال:
«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: الرِّيَاءُ» (رواه أحمد).
وهذا الحديث يُظهر أن الرياء ليس مجرد ذنب عابر، بل هو شرك يهدد صحة الإيمان.
2. الاعتدال في المدح:
نهى النبي ﷺ عن المبالغة في المدح، حتى لا يُصاب الممدوح بالعُجب، فقال:
«احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ» (رواه الترمذي).
هذا النهي ينطبق على المدح الإلكتروني أيضًا، خاصة إذا تحول إلى تمجيد مبالغ فيه.
رابعًا: تطبيقات في السياق الإلكتروني
1. حالات المدح الإلكتروني المشروع:
الثناء على أعمال الخير: مثل نشر فيديو لمشروع خيري لتشجيع الآخرين على المشاركة.
المدح المعتدل: ككتابة تعليق شكر لصاحب محتوى مفيد دون مبالغة.
2. مظاهر الرياء الإلكتروني المذموم:
نشر العبادات: كتصوير الصلاة أو الصدقة لجذب المتابعين.
التناقض بين الظاهر والباطن: كالتظاهر بالتقوى إلكترونيًا مع إهمال الواجبات في الواقع.
خامسًا: ضوابط شرعية للتعامل مع المنصات الرقمية
1. مراجعة النية:
قبل النشر، يُستحب للمسلم أن يسأل نفسه: "هل سأفعل هذا لو لم يكن أحد يراقبني؟". فإذا كان الدافع داخليًا خالصًا لله، كان العمل مقبولًا.
2. التوازن بين النشر والإخفاء:
يُفضل إخفاء الأعمال الصالحة عمومًا، إلا إذا كان النشر يحقق مصلحة راجحة، كالتشجيع على فعل الخير. قال تعالى:
﴿إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 271].
3. الحذر من فتنة الشهرة:
ينبغي تجنب تحويل المنصات إلى ساحة للمنافسة الدنيوية، كالسعي وراء الإعجابات لتعزيز الهوية الاجتماعية على حساب القيم الروحية.
أبرز الدروس والعبر
الإخلاص شرط القبول: لا قيمة لعمل دون نية صادقة، سواء أكان ماديًا أم رقميًا.
الرياء يُهدم الأعمال: حتى لو بدت الأعمال كبيرة، فإن افتقارها للإخلاص يجعلها هباءً.
المنصات الرقمية اختبار إيماني: كل منشور أو تفاعل هو فرصة لمراجعة النية وتصحيح المسار.
المدح سلاح ذو حدين: قد يكون تشجيعًا للخير أو إفسادًا للقلوب إن خالطه كذب أو إفراط.
التربية على مراقبة الله: استحضار عظمة الخالق يقي من الانجراف وراء إعجاب المخلوقين.
الخاتمة
في عالم تسيطر عليه الشاشات الرقمية، يظل الإخلاص لله هو المعيار الأسمى لقبول الأعمال. على المسلم أن يعي أن كل نقرة أو مشاركة إلكترونية هي مسجلّة في كتاب أعماله، وأن الفضاء الرقمي ليس فضاءً معزولًا عن الحساب الأخروي. لذلك، يجب توظيف هذه المنصات لخدمة الأهداف السامية، كدعوة الناس إلى الخير ونشر العلم النافع، مع الحذر من تحولها إلى أدوات للرياء أو الفخر الزائف. وفي النهاية، ينجو الإنسان بقلب سليم يُخلص العبادة لله، ويجعل من كل فعل – ولو كان رقميًا – خطوة نحو رضوانه تعالى.


مفهوم، وحكم، المدح ، الرياء ، الإلكتروني ، القرآن الكريم ، السنة النبوية، الدروس، العبر


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


بارك الله فيك استاذي وشيخي الفاضل