حكم المشاركة في حكم غير إسلامي في ضوء فقه الموازنات ( من قصة يوسف عليه السلام)
عمر محمد جبه جي | Omar Jabahji
23/08/2019 القراءات: 3912
قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليمٌ ) (يوسف: ٥٥).
في هذه القصة الخالدة بعدما ثبتت براءة يوسف على الملأ، وظهر احتياج الملك لخبيرٍ في الاقتصاد، يدير دفة سفينة مصر في الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد والعباد، وكان المؤهل الوحيد لهذه المهمة يوسف الصديق عليه السلام، يَقدُم يوسف على الملك ليقدمَ له خدماته وليعرضَ عليه مؤهلاته التي تخوله القيام بهذه المهة، فهو العليم بشؤونها، والأمين على مقدرات الأمة.
ومن قصة الصديق يوسف عليه السلام استنبط بعض العلماء جواز العمل تحت ظل الحاكم الكافر إذا كان يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق مصالح عظيمة:
دعوتهم إلى الدين الحق وإمضاء أحكام الله، وتخفيف الظلم وبسط العدل، وإقامة الحق والإحسان، وتحقيق ما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد، وأنَّ أحداً لا يقوم مقامه في ذلك، وأن يكون طلبه ابتغاء وجه الله لا لحب المنصب والدنيا، وهذا الأمر يحتاج إلى موازناتٍ كثيرةٍ، وشورى من أهلها إن وجدوا.
وهذه بعض أقوال العلماء في هذا الموضوع:
قال القرطبي رحمه الله : "قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز ذلك"
وقال ابن عطية رحمه الله : "قال بعض أهل التأويل: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما أن عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز له ذلك" .
وقال أبو حيان رحمه الله : "جواز عمل الرجل الصالح للرجل الفاجر بما يقتضيه الشرع، والعدل لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يستسيغه الشرع، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه بأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك" .
ويقول العز بن عبد السلام رحمه الله : "ولو استولى الكفار على إقليمٍ عظيمٍ، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله، جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمصالح الشاملة، إذ يبعد من رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهلٌ لها"
و قال ابن تيمية رحمه الله : "الولاية وإن كانت جائزةً أو مستحبةً أو واجبةً، فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب، فيقدم خير الخيرين وجوباً تارةً، واستحباباً أخرى، ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفاراً، ... ومعلومٌ أنهم مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادةٌ وسنةٌ في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جاريةً على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن أن يناله بدون ذلك)
من أقوال العلماء السابقة يتبين لنا أنه يجوز العمل في ظل حكم الكافر أو الظالم أو الحكم غير الملتزم بالشريعة مع كون ذلك مفسدةً في حد ذاته، إذا حقق ذلك مصالح كثيرة للإسلام، كدعوة الكافرين إلى الدين الحق، وإمضاء أحكام الله، وتخفيف الظلم وبسط العدل، وإقامة الحق والإحسان،وربما كان يجب عليه طلب العمل إذا توقف على ولايته إقامة واجبٍ، وكان متعيناً لذلك، وهذا الأمر يحتاج إلى فقه موازنةٍ دقيقٍ مقيدٍ بالضوابط الآتية:
أن يعلم أن الظالم أو الكافر يفوض إليه ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء.
أن يتوصل من خلال عمله إلى إمضاء حكم الله، وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، وإيصال الحقوق إلى أصحابها.
-أن لا يقوم غيره مقامه.
إن المشاركة في الحكم في ظل الأنظمة المعاصرة التي غيبت الشريعة عن السلطة، وأقامت حكم الطاغوت، ونازعت الله في حكمه، تمييعٌ لقضية الحكم عند المسلم، وتوقعه في تناقضٍ كبيرٍ، فهو مأمورٌ بالكفر بالطاغوت ، ومحاربة من حاد الله، إلا أن المشاركة في الحكم في بعض الأوقات والأحوال تحقق مصالح راجحة، ومنافع معتبرة للإسلام والمسلمين يتعذر غالباً تحقيقها بغير ذلك، وإخضاع القضية لفقه الموازنات يخرجها عن أصل التحريم، لاعتباراتٍ شرعيةٍ، حيث يغطي هذا الفقه الاوضاع الاستثنائية التي يعيشها المسلمون، من تغييب للحكم الإسلامي، وبالنظر المصلحي يحتم الواجب الشرعي المشاركة في هذا الحكم، لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الأهداف المنشودة بإقامة حكم الإسلام .
على أن المشاركة تحقق للمسلمين الكثير من المصالح أذكر منها ما يأتي :
تتيح المشاركةُ في السلطة الفرصةَ أمام الرواد الإسلاميين للتأهل والتدرب على ممارسة الحكم، وصناعة القرار، والإحاطة بآليات إدارة السلطة وتعقيداتها.
درء المفاسد والمؤامرات والمكائد عن العاملين بالإسلام وأهله، والحركات العاملة بالإسلام.
إعادة الثقة بالإسلام، وأنه دينٌ قادرٌ على تنظيم شؤون الحياة الخاصة والعامة، وذلك بما يقوم به المشاركون في الحكم من إحقاقٍ للحق وإزهاقٍ للباطل.
محاربة المراكز والمؤسسات التي تنشر الرذيلة والضلال، وزيادة المؤسسات الإسلامية التي تنشر الخير.
الاستفادة من هيبة السلطة لخدمة هذا الدين، والتحرك به في واقع الحياة، لأسلمة الحياة.
بحث فكري فقهي سياسي
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة