مدونة د. سالم مبارك محمد حسن بن عبيدالله


القرآن الكريم والعربيَّة 2

د. سالم مبارك محمد حسن بن عبيدالله | D. Salem Mubarak mohammed ban obaidellah


03/06/2021 القراءات: 1137  


فإن قال قائلٌ: ما الحجَّةُ في أنَّ كتابَ اللهِ محضٌ بلسان العرب، لا يَخْلِطُه فيه غيرُه؟ فالحجَّةُ فيه كتابُ الله، قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4)، فإنْ قال قائلٌ: فإنَّ الرسلَ قبلَ محمدٍ كانوا يُرسَلون إلى قومهم خاصَّة، وإنَّ محمدًا بُعث إلى الناس كافَّة، فقد يحتملُ أن يكونَ بُعِث بلسان قومه خاصَّة، ويكونَ على الناس كافَّةً أنْ يتعلَّموا لسانَه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أنْ يكون بُعث بألسنتهم. فهل من دليل على أنَّه بُعِث بلسان قومه خاصَّةً دونَ ألسنةِ العجم؟ [ص:46] فإذا كانت الألسنةُ مختلفةً بما لا يفهمه بعضُهم عن بعضٍ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ بعضُهم تبعًا لبعضٍ، وأنْ يكونَ الفضلُ في اللسان المتَّبَعِ على التابِع. وأَوْلَى الناسُ بالفضل في اللسان مَنْ لسانُهُ لسانُ النبيّ. ولا يجوزُ - واللهُ أعلم - أنْ يكونَ أهلُ لسانِه أَتْبَاعًا لأهل لسانٍ غيرِ لسانه في حرفٍ واحدٍ، بل كلُّ لسانٍ تَبَعٌ للسانه، وكلُّ أهلِ دينٍ قبلَه فعليهم اتباعُ دينِه. وقد بيَّن اللهُ ذلك في غير آيةٍ من كتابه، قال الله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عربيّ مُبِينٍ} (الشعراء 192 - 195)، وقال: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} (الرعد/ من 37)، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عربيّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَ} (الشورى/ من 7)، [ص:47] وقال: { حَمَ * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عربيّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف/ 1 - 3)، وقال: { قُرْآَنًا عربيّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر 28). قال الشافعيُّ: فأقامَ حُجَّتَه بأنَّ كتابَه عربيٌّ، في كلِّ آية ذكرناها، ثمَّ أكَّد ذلك بأنْ نَفَى عنه - جلَّ ثناؤه - كلَّ لسانٍ غيرِ لسانِ العرب في آيتين من كتابه. فقال تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عربيّ مُبِينٌ } (النحل/ 103)، وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعربيّ} (فصلت/ من 44).
قال الشافعيُّ: وعرَّفَنَا نِعَمَهُ بما خَصَّنا به من مكانِه، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة/ 128)، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة/ 2) . وكان ممَّا عرَّفَ اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف/ 44)، فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابِه. وقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء /214)، وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى/ 7)، وأمُّ القرى: مكَّةُ، وهي بلدُه وبلدُ قومِه، فجعلَهم في كتابه خاصَّة، وأدخلَهم مع المُنْذَرِينَ عامَّةً، وقضى أنْ يُنْذَروا بلسانهم العربيّ، لسانِ قومِه منهم خاصَّة. ... [ص:49] وما ازْدَادَ من العلمِ باللسان، الذي جعلَه اللهُ لسانَ مَنْ خَتَمَ به نُبُوَّتَهُ، وأنْزَلَ به آخِرَ كتبِه: كان خيرًا له. كما عليه يَتَعَلَّم الصلاةَ والذكرَ فيها، ويأتي البيتَ، وما أُمِر َبإتيانِه، ويتوجَّهْ لِما وُجِّهَ له. ويكونُ تبَعًا فيما افتُرِض َعليه، ونُدبَ إليه، لا متبوعًا. [ص:50] وإنَّما بدأتُ بما وصفتُ، من أنَّ القُرَآنَ نزلَ بلسان العربِ دونَ غيرِه؛ لأنَّه لا يعلمُ مِن إيضاحِ جُمَلِ عِلْم الكتابِ أحدٌ، جهِل سَعَةَ لسانِ العربِ، وكَثرةَ وجوهِه، وجِماعَ معانيه، وتفرُّقَها. ومَنْ عَلِمَه انتفَتْ عنه الشُّبَهُ التي دخلَتْ على مَن جهِل لسانَها.


القرآن - العربيَّة - الشافعي - أوسعُ الأَلْسِنَةِ


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع