قيادة الامة في الزمن الصعب
أ.د سعد سلمان عبد الله المشهداني | Prof. Dr : Saad Salman Abdallah ALmishhdani
12/12/2019 القراءات: 5253
انشغلت الأمة العربية بقضية القيادة منذ العصر الجاهلي إلى أن ظهر محمد صلى الله عليه وسلم قائداً ونبياً ورجل دولة من الطراز الأول . وانشغل العرب بقضية القيادة عند وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ودفع العرب ثمناً لهذه القضية الكثير من دماء أبنائهم . ولا عجب أن يعاد إلى البحث من هذا النوع في الظروف الحالية التي يمر بها العراق خاصة بعد الاحتلال الأمريكي له عام 2003 .
إن الأمة تبحث عن البطولة عادة عندما تعيش في مأزق وحين تنفرط حباتها ، وحين يغبن النزيه وتنشل الإرادة وتنتصر الشلة . حين يعيش العرب حالة مشابهة لحالة غاليلو عندما صاح وهو يقف متهماً في محاكم التفتيش : الشمس ليست مركز الكون ونظريتي ساقطة وكتابي دجل والصحيح هو ما تقوله الكنيسة ... الأرض مركز الكون لأنها مركز السيد المسيح وأنا غاليلو أيها السادة رجل دجال .. رجل كذاب .
وخرج غاليلو بريئاً من محاكم التفتيش فهاجمه عند باب المحكمة تلميذه أندريا الذي قضى مع أستاذه ربع قرن حتى تحققت نظريته العلمية صارخاً في وجهه ولحيته في قبضة يساره : ( تعيس هو البلد الذي ليس فيه أبطال !!) . فانحدرت دمعة من عين غاليلو وربت بيده على كتف تلميذه وهو يقول : ( لا يا أندريا .. تعيس هو البلد الذي يحتاج إلى أبطال ) .
إن أندريا التلميذ المتحمس للعلم لم يكن يدري أن أستاذه قد أدخل إلى خزانة الرؤوس حيث تحتفظ الكنيسة بالرؤوس المقطوعة لعدد من أعظم عباقرة الفلك والفيزياء والفلسفة لمخالفتهم التعليمات البابوية . وقد حدد مسمار على جدار الخزانة ليعلق عليه رأس غاليلو بعد قطعه في محكمة التفتيش .
وغاليلو العظيم كان عظيماً في استجوابه الجبان .. ( ليس البلد تعيساً إذا لم يكن فيه أبطال .. بل تعيس إذا احتاج إلى أبطال ) .
وهنا تسكب العبرات فحين يكذب غاليلو وينفعل أندريا يخرج البطل أو القائد في هذا المأزق لينتشل الأمة ويعظم الإرادة ، يحجز زمن الهزيمة ويدفع ديات المقصر لتنتصب سلة النصر .
وفي العراق القديم وبالذات في ملحمة كلكامش نجد أن شعب سومر قد اهتم بالقائد والحكومة والنظام السياسي قبل نحو آلاف السنين حيث تصف الملحمة حاجة العراقيين إلى القائد السياسي بالنص الآتي:ـ
هو الذي رأى كل شئ هو الذي عرف كل الأشياء وخبرها
هو العارف بالخفايا
هو الحكيم المبصر
هو المعمر الباقي
شهيد زمانه في عدله وحكمته
في جماله ومهابته
في باسه وشجاعته
في قهره لاعتى أعداء سومر .
هكذا كان يرى شعب سومر قائده (كلكامش) وهكذا انشد مسيرته عبر القرون ، ولم تكن طموحات شعب سومر للقائد ورؤيته رؤية بسيطة ولا أسطورية خيالية بل كانت مجسدة في ملحمة كلكامش الملك الخامس في سلالة ملوك سومر 2600ق.م
وعندما تناقلت الأجيال اللاحقة في سومر وبابل واكد واشور سيرة كلكامش
فإنها كانت تتناقل خصال البطل / القائد / الرمز الذي يجسد قيماً عظيمة صنعها ضمير الشعب ،وهي القيم نفسها التي ورثها حمورابي وسرجون ونبوخذنصر واشور بانيبال .
ولم تنطفئ سمات الرمز بزوال دول العراق القديم بل تبلور دور اكبر للقائد السياسي وهو دور رسالي روحي خاصة عندما جاء الإسلام أوضح أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض وليس كما يسميه الغرب الحيوان الناطق .
ويحفل تاريخ العراق الحديث بظاهرة اجتماعية قائمة ومصاحبة للتفكير الشعبي العام وهي حصر الفضل والقيمة بالأولوية الزمنية، فالأول في الزمن يعني الأول في القيمة والأسبقية في الزمن تعطي الأسبقية في القيمة التاريخية لصاحبها . وأصبح في المألوف الاجتماعي وفقاً لهذه النظرة ممكناً لأية فكرة سابقة ان تلغي أو تنسخ فكرة لاحقة ، على عكس المطلوب في المنطق . وهذه قضية عاناها عبد الكريم قاسم من محبي الملوك الذين تعاقبوا على حكم العراق فيصل الأول وغازي وفيصل الثاني ، بقدر ما عاناها عبد السلام عارف من محبي عبد الكريم قاسم ، وبقدر ما سيعانيها النظام الجديد من محبي النظام السابق .
لقد عمل عبد الكريم قاسم منذ أن آلت إليه رئاسة الجمهورية في العراق على نسخ تجربة الملك فيصل الثاني التي هي امتداد لتجربة الملك غازي ومن قبله الملك فيصل الأول رحمه الله، بدلاً من أن يستنسخ التجربة ويأخذ ما يفيد منها كتقاليد وأفكار وأساليب . لقد أختار عبد الكريم قاسم أن يكون ناسخاً ، وان يرفض عملية استنساخ تجربة الملوك الثلاثة سواء في المفاصل الأساسية أم في المفاصل الثانوية . ويبدو أن ذلك الأمر موجود في اغلب تجارب الحكم السياسية في العالم الثالث فعلى الرغم من أن السادات ينحدر من سلالة ناصرية نقية وكان واحداً من رموزها إلا انه بعد ان آلت إليه رئاسة مصر اختار ان يكون ناسخاً وان يرفض عملية استنساخ عبد الناصر . ولم تنسخ أنديرا غاندي تجربة غاندي أو تستنسخها على الرغم من إنها حبيبته الصغيرة .
ان القيادة في الزمن الصعب لابد ان تتناسخ وهذا قانون اجتماعي صحيح يلبي حاجات التطور لكن التناسخ العراقي قاسي فهو نوع من الإلغاء والمحو . ان لم يكن إبادة كاملة للتجربة السابقة تأخذ شكل الردة . فقد أخذت الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق المعاصر فكرة محو التجربة القيادية السابقة من الدول الاشتراكية على الأغلب ، حيث نسخ ستالين قيادة لينين ، ونسخ خروشوف قيادة ستالين ، وألغى بريجنيف تجربة خروشوف .
إن التناسخ القيادي ظاهرة صحية في جوانبها المتعددة بسبب الفرق النوعي بين القائد القديم والقائد الجديد سواء كان القديم سعد زغلول والجديد حسني مبارك أو كان القديم ستالين والجديد بوتين .
المهم على القيادة في الزمن الصعب أن ترث الصالح والمفيد من شخصية حكام العراق الإيجابية ومدارسهم السياسية وتقاليدهم وأفكارهم وأساليبهم لا ان تكون ناسخة كي يستفيد العراقيون من الزمن الذي ضاع منهم كي لا يكونوا خارجه ... ورحم الله من أعان الشعب على بناء العراق العظيم من جديد .
ملحمة كلكامش، الرمز في العراق القديم، الدور الرسالي للقائد
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع