التوطئة في أحكام الأوبئة- حكم الحج والعمرة للمصاب بالوباء وإيقافهما عند انتشار الأوبئة
د. طه أحمد الزيدي | Dr. TAHA AHMED AL ZAIDI
19/03/2020 القراءات: 4287 الملف المرفق
فإنّ من المتفق عليه عند الفقهاء أنّ المدينة المنورة محفوظة بحفظ الله تعالى من الطاعون، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلاَ الدَّجَّالُ» (أخرجه البخاري، 9/61، ومسلم 2/1005)، وألحق بعض الفقهاء مكة بها، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ مَحْفُوفَتَانِ بِالْمَلَائِكَةِ، عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكٌ لَا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ، وَلَا الطَّاعُونُ "، (أخرجه الامام أحمد، 16/184، وقال الشيخ شعيب: حديث صحيح، ولكنهما ليستا محفوظتين من سائر الأوبئة والأمراض العامة، فهي قد تنزل أرض الحرمين المكي والمدني, وهذا معلوم حصوله، قديماً وحديثاً، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ (الدؤلي)، قَالَ: أَتَيْتُ المَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (أخرجه البخاري ، 3/169)، فهذا الحديث يدل على أنّه وقع وباء بالمدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فإذا نزل الوباء، فما حكم أداء الحج والعمرة وتوقيف شعائرهما، سواء عند ظهور الوباء أو انتشاره فاصبح وباء عالميا لم تسلم منه دولة ومنها بلاد الحرمين، وتحرير هذه المسالة يقتضي التفصيل، ولذا سنبحثه في مسألتين وتحتهما فروع.
المسألة الأولى: حكم الحج والعمرة للمصاب بالوباء (الإيقاف الجزئي)
من المتفق عليه عند فقهاء المذاهب أن الاستطاعة شرط لأداء الحج والعمرة لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (آل عمران: 97)، يقول ابن قدامة : "إنّ الحج إنما يجب بخمس شرائط: الاسلام ، والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة، لا نعلم في هذا كله اختلافا" (المغني لابن قدامة 3/213)، وأجمعوا على شرط القدرة فإن من عليه حجة الإسلام، وهو قادر لا يجزئ إلا أن يحج بنفسه، (الاجماع لابن المنذر ص 59)، واتَّفقُوا على أن الحج فرض على منَ لَيْسَ فِي طَرِيقه بَحر وَلَا خوف، (مراتب الاجماع لابن حزم ص41) فالخوف المتحقق يسقط وجوبه.
والمصاب بالوباء المعدي يسقط عنه الحج والعمرة من باب أولى؛ لأنه غير مستطيع على أدائه، وانتفت القدرة عليه بوبائه، ويحكم بسقوط الاستطاعة والقدرة عنه، ومن ثم القول بالإيقاف الجزئي لأداء مناسك الحج والعمرة على الأفراد المصابين بالوباء وحتى من يشتبه بإصابته به؛ لما يأتي:
- الأصل أن الموبوء بمرض معد يخشى انتشاره عند الاختلاط يحجر عليه، والحجر يمنع أداء مناسك الحج والعمرة أو يمنع من الورود على الأصحاء لنهي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بقوله: «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» (أخرجه البخاري 7/138، ومسلم 4/1743)، وكَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» (أخرجه مسلم 4/1752) ، وثبت أن أميرَ المؤمنين عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ، وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ لَهَا: يَا أَمَةَ اللهِ، لاَ تُؤْذِي النَّاسَ، لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ، فَجَلَسَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذلِكَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ، قَدْ مَاتَ، فَاخْرُجِي، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ حَيّاً، وَأَعْصِيَهُ مَيِّتاً). (أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/625)، ولا حج ولا عمرة من غير مخالطة، ولذا فالنهي عن المخالطة يقتضي منع الموبوء من أداء الحج والعمرة، والمنع يقتضي سقوط الوجوب فضلا عن المندوب.
- إنّ أداء الحج والعمرة لا بدّ لصاحبه من دخول المسجد الحرام؛ لتعلق بعض أركانهما به ولاسيما الطواف والسعي، وقد اتفق الفقهاء على أن من الأعذار التي تبيح للفرد التخلف عن صلاة الجمعة أو الجماعة في المسجد كل مرض يمنع صاحبه من التمكن من حضورها أو يتسبب بتنفير الآخرين وإيذائهم منه، كالأمراض المعدية أو الأمراض المنفرة، من باب قياس الاولى على أكل الثوم ونحوه، بجامع الأذى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أو بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا -أَوْ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ)، وفي رواية: (لَا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا) (أخرجهما البخاري، 1/170-171)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:( لَقَدْ رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ ريحَهُمَا – البصل والثوم – مِنَ الرَّجُلِ فِي المَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلى الْبَقِيعِ) (أخرجه مسلم1/396)، ولا شك أنّ ضرر إنتشار الوباء والخوف من الإصابة به مثل “فيروس كورونا المستجد” أشدّ وأخطر من أكل الثوم والبصل والكراث، فصاحب الوباء أولى بالإعتزال من آكلِ الثوم، واعتزال الموبوء بمرض معدي المسجد الحرام لتأذي الحجاج والمعتمرين ونفرتهم من وجوده، يمنعه من أداء الحج والعمرة لتعلق الطواف والسعي بدخول المسجد الحرام.
- أمرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين بالفرار من المجذوم، ومثله كلّ شخص موبوء بمرض معدٍ يخشى انتشاره، كما أنّ الأحاديث النبوية تحذر من التعرض للعدوى، ولذا طلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المجذوم الرجوع وقبل بيعته من غير ملقاة له أو اختلاط به، ويتعذر على الحجاج والمعتمرين أن يفروا من الحاج أو المعتمر الموبوء وأن لا يختلطوا به ، بل يستحيل ذلك عليهم عند وجوده بينهم، وهو ملزم بأداء مناسك الحج في أماكن محددة كالطواف والسعي والوقوف بعرفة والرمي، فكان لا بدّ من عدم تواجد الموبوء في هذه الأماكن ورجوعه عنها، فيسقط بذلك وجوب الحج عنه، فضلا عن حج التطوع والعمرة.
احكام كورونا- احكام الاوبئة- تعطيل الحج عند الوباء- حج المصاب بالوباء- الحج والعمرة عند الوباء
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة