إِنجَازُ الْمُمْكِنِ خَيْرٌ مِنَ الْتَسْوِيْفُ
د صالح علي ناصر الخدري | saleh ali nasser alkhadri
06/02/2021 القراءات: 2822
تَمُرُّ علينا الأيام والسَّنوات ونفقد معها كثيراً من الأمور التي كنا نُمنِّي أنفسنا ونرغب في مباشرة فعلها بوقت كان يمكن لنا فعلها فيه، لقد فاتتنا ولم تتحقَّق، وقد لا تتحقَّق في المستقبل القريب أو البعيد، حتَّى وإن كان في العمر بقيَّة، إِمَّا لفوات الوقت المناسب لفعلها وعدم تكرّره، أو لعجز البدن الطارئ وعدم قدرته على الوصول إليها، أو لانشغال الفكر بغيرها عنها، أو لفراق مَن له حاجة إلينا لفعل عملٍ ما، أو انتقاله إلى جوار ربه، ومغادرته هذه الحياة الدنيا.
إنه لفوات مُرٌّ ومُؤلم يدعونا إلى وقفه جادة مع النَّفس قبل أن تفوت بذاتها، فنفقد الحياة ونفقد معها الكثير ممَّا يجب علينا فعله، فالواجبات كثيرة والعمر أنفاس معدودة، كما قال الحسن البصري رحمه الله أو غيره: (ابن آدم، إنَّما أنت أيَّام مجموعة كُلَّما مضى يومٌ مضى بعضك).
فكم من عزيز علينا كنَّا نأمل القرب منه ولقاءه في وقت فراغنا وتيسّر الفرصة المناسبة وزوال الموانع، لقد كنَّا نُمَنِّي أنفسنا بأنَّ الوقت فيه متَّسع للعيش معه، والاستئناس بالقرب منه، ثم وافاه الأجل وفات علينا لقاؤه، وكان الغياب النّهائي المفاجئ، ولم يبق إلا ذكر محاسنه والدُّعاء له، إن لم تشغلنا الشَّواغل الصَّارفة عن ذكره والدُّعاء له، كما انشغلنا عنه حال حياته، وقد كان بالإمكان لقاءه ومجالسته ولو في القليل من الوقت، وفي حال تعسُّر اللقاء المباشر فبما تيسر من التواصل بين الحين والآخر بالوسائل المعاصرة.
وكم من فعل خيرٍ ومعروفٍ لم نفعله في وقت الحاجة الماسَّة إليه، ومنَّينا أنفسنا بأنَّ فرصةً ستأتي لفعله، ثمَّ فات لأيِّ صارفٍ، كذهاب وقته المناسب، أو انقضاء زمنه المبارك، أو مُضيّ الحاجة إليه، أو موت من هو مضطرٌ له، وكانت المفاجأة والنَّدم الذي يتكرَّر لدينا -مع الأسف- عند كثير من الأحوال المشابهة والمتكرِّرة.
وكم من أمور فيها خير لنا ولأهلنا ومجتمعاتنا تكاسلنا عن فعلها على أمل أن يكون في الوقت متَّسع لفعلها في القريب العاجل، فجاءت الموانع والصَّوارف، وكثرت الالتزامات التي منعت من العودة إلى تلك الأعمال النَّافعة، وتمنَّينَا لو عادت تلك الأيام المنصرمة لفعلنا فيها الكثير، فعرفنا بعد فوات وقتها مدى الحاجة إليها، وأثر غيابها على مستوى تعليمنا ومعيشتنا وراحة أهلنا وسعادة مجتمعاتنا، وكلُّ شخص لديه قصَّة أو قصص تتعلَّق بالجانب الأكاديمي أو المادِّي أو التَّربوي أو الأسري، في حقِّ نفسه أو أهله وأولاده ومجتمعه، يتذكَّر من خلالها إهماله وتسويفه وترْكه فرصةً صارت تأريخاً قديماً يؤلمه كلَّما تذكَّره وحدَّث به نفسه، لشدَّة ارتباطه بحاضره ومستقبله، ويتجرَّع مرارة العواقب كلَّما تذكَّر تقصيره وتفريطه.
وأصل العلاج -لكلِّ ما سبق وغيره- في المبادرة بإنجاز كلِّ ما يجب، ممَّا يطلبه الوقت من أمور الدِّين أو الدُّنيا على أكمل وجه ممكن وأتقنه، فإن لم يتيسَّر إنجاز العمل كما ينبغي فليتم ولو بمستوى أقل، فذلك خير من عدم فعله، وإن لم يتيسر فعله كله فبعضه أو جزء منه، فذلك خير من تسويف فعله كله.
وألَّا يؤجِّل المرء إلَّا ما لم يجد له في وقته الحاضر مجالاً لتنفيذه، أو أنَّ في تأخيره مصلحة راجحة، فالعمر يمضي والفُرَصُ قد لا تتكرَّر، وصدق من قال: فاز مَن حياته إنجاز.
وإن الذي يملكه المرء من الفُرَص ما يكون في الوقت الحاضر يعمل فيه، فما مضى انتهى ولن يعود وقد سُجِّلت حسناته وسيئآته، وما لم يأت هو غيب لا يملك شيئاً منه إلَّا أملاً يأمله بأن يكون له فيه خير، والحاضر ميدان العمل، بفعل الممكن وتكفير ما مضى واستجلاب خيرِ المستقبل إن قُدِّر له به عمراً، كما قال القائل -إنْ حُسُنَ الاستشهاد بقوله هنا-:
ما مضى فاتَ والمؤمَّلُ غيبٌ ولكَ السَّاعَة التي أنتَ فيهَا
وقد ورد عن نبيِّنا محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام وصيَّته لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قوله: (إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودِّع) رواه أحمد وابن ماجة، ليربطه بعبادة الوقت ويبعده عن كلِّ الصوارف، فلا مكان لماض أو مستقبل بل الانشغال بما يجب في الحاضر وحسب، وبما يعود عليه بالخير بسائر الأوقات.
ولأن يقضي الواحد منا عملاً واحداً من الأعمال النَّافعة في يومه، خير له من أن يؤجَّل أضعافه ثمَّ يتراجع وتضعف نفسه فلا يفعل، وإن تكرَّرت الفرصة وتكرَّر العمل المطلوب بكماله فهو خير إلى خير، وفضل الله واسع.
وعليه فإنَّه يجب على كلِّ عاقل نبذ التَّسويف والتَّكاسل والتَّأخير في الإنجاز غير المبَرَّر، والتزام المبادرة والمباشرة لكلِّ نافع بما تيسَّر له، من أمر الدِّين أو الدُّنيا، قال الله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) البقرة148، والمسابقة توحي إلى نبذ التَّراخي والتَّباطؤ والتَّخلُّق بخلق المبادرة والإنجاز المبكِّر لفعل كلِّ ما هو خير، وقد تعوَّذ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من العجز والكسل، لما فيهما من تعطيلٍ للأمور وتهوينٍ للعطاء، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام كما في حديث زيد بن الأرقم رضي الله عنه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ) رواه مسلم، وحثَّ على المبادرة بفعل الصَّالحات قبل أن يصرف عن فعلها أيُّ صارفٍ، فقال: (بادِروا بالأعمالِ سبعًا: هل تنظرون إلا فقرًا مُنسِيًا، أو غنًى مُطغِيًا، أو مرضًا مُفسِدًا، أو هرَمًا مُفنِّدًا أو موتًا مُجهِزًا، أو الدَّجَّالَ فشرٌّ غائبٌ يُنتَظرُ، أو السَّاعةُ فالسَّاعةُ أدهى وأمرُّ) رواه الترمذي.اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من العجز والكسل ونعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر، ونسألك اللهمَّ العون فإنَّا بك نستعين على أمور الدُّنيا والدِّين.
إنجاز - ممكن - تسويف
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع