الانتصار لإجماع المسلمين في إقامة شعائر الدين (2)
دكتور حسن أبو الخير | Dr. HASSAN ABULKHAYR
21/06/2020 القراءات: 3276
احتج من أفتى بوجوب إغلاق المساجد وتعطيل الجمع والجماعات (لفيروس كورونا) بعدة قواعد كلية.
أقول: هذه القواعد وغيرها مما استدلوا بها أقسامٌ:
1-منها ما هي مستندةٌ إلى أدلةٍ من الشَّرعِ؛ كقواعدِ رفعِ الحرجِ ونحوها.
وإجماع المسلمين المنعقد على عدمِ جوازِ تعطيلِ المساجدِ مِنَ الجُمعِ والجَماعاتِ، قد راعَى هذا الحرج فرفعه عن المريضِ أو من يخشَاه، بأن رخص لهم التخلفَ عن الجُمُعةِ والجَمَاعَةِ.
وأما الذِي حصلَ بهذه الفتوى فهو إلحاقُ الحرجِ بالمكلفينَ لا رَفْعه، وذلك بعدم إمكانيةِ تأديتهم للجماعة وللجمعةِ الواجبةِ على الذكورِ بالإجماعِ.
2-ومنها ضوابطٌ، وكثيرًا ما يخطِئُ النَّاسُ فينزلون الضابطَ منزلةَ القاعدةِ.
3-ومنها ما بناه أحد الأشخاص على مسألةٍ أو مسألتينِ فاستنتجَ منها أو منهما قاعدة.
4-ومنها مقولاتٌ لأحد أهلِ العلمِ اتخذها بعضُ النَّاس قَواعِدَ؛ لاستحسانهم لها.
5-ومنها مخترع ذكرها البعض بناء على ما استقر عنده من تصور، فألبسه لباس القاعدة الشرعية.
والمتأمِّلُ لحالِ القوم يعرفُ أن دينَهم هو القواعد والكليات بعَبَلِها، لا النصوص الشرعية بإحكامِهَا، فَحَالهم كحال منِ استعاضَ عن النصوصِ الشرعيةِ بالأصولِ الكلاميةِ، وبالآراءِ العقليةِ النظريةِ، وبالمناهجِ الفلسفيةِ، وبالمكاشفاتِ الذوقية الوَجْدِيَّةِ، وبالنُّظُمِ السياسيَّة، وبالتراتيبِ الإداريةِ.
فالأول: حال المتكلمين في أصول الدين من العقائد والأحكام، فأحلُّوا مكانَ النصوصِ الشرعيةِ طرقًا وأصولًا كلامية، بما فيها المنطق الأرسطي؛ ليكون هذا ما يعوِّلونَ عليه في علومهم.
والثاني: حال أهل الرأي في فروع الأحكام، فأحلُّوا مكان النصوص الشرعية آراءً عقليةً وقياساتٍ نظريةً؛ لتكون هي طريقتهم لاستنباط الحكم الفقهي للحوادث، فكان هذا هو المعوَّل عليه في طريقتهم، وسار عليه بعضُ من ينتسب إلى فقهاء مدرسة الحديث؛ بتصريحه أن النصوص لا تفي بمعشار الأحكام، فيحتاجون إلى القياس والرأي.
والثالث: حالُ الفلاسفةِ في طرق النظر والاستدلال، فأحلُّوا مكانَ النصوصِ الشرعية فلسفةَ اليونان، التي تُعطي تصوراتهِم عن: الكونِ والإلهِ ...، وتُعرّفُهُم كيفيةَ التفكير العلمي، فكانتِ هي المعوِّل عليه في استدلالاتهم وبناء تصورهم وتفكيرهم.
والرابع: حال المتصوفة الذين أحلُّوا مكان النصوص الشرعية في طريقة الحصول على العلومِ والمعارف، مكاشافاتٍ غيبيةً وذوقياتٍ قلبيةً وأحيانًا جسديةً ووجدانًا نفسانيًّا، فكانت هي المعوِّل عليه في طرق تلقي العلوم والسلوك.
والخامس: حال الملوك والحكَّام الذين اتخذوا طرقًا لسياسة الناس مبنية على حصول المصلحة الدنيوية بما يحفظ لهم ملكهم ودولهم، فأحلُّوا مكان النصوص الشرعية الحاثَّةِ على السعي للآخرة وعمارة الدنيا بالدين، هذه النظمَ السياسية الواردة لهم من الكفار ومن أهوائهم؛ كطرق الاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية والعلمانية ....
والسادس: حال العساكر المتغلِّبين الذين أحلُّوا مكان النصوص الشرعية في التدابيرِ والتراتيبِ الإداريةِ والعسكريةِ تراتيبَ مأخوذةً عن الدولِ القديمة أو الحديثة، مع مخالفتها في أصولها وكثير من فروعها لما هو في النصوص، ولكنها لما كانت أكثرَ إحكامًا وتسلُّطًا على رقاب الناس ألزموهم بها.
والسابع: حال هؤلاء المفْتِينَ الذين أحلُّوا مكانَ النصوص الشرعية الدالةِ على أحكام المكلَّفين والمبيِّنةِ لأحوالهم منفردين ومجتمعين، قواعدَ وكليات استحسنوا كثيرًا منها بعقولهم، أو وجدوا أحدًا ممن تقدَّمهم سطّرها دون مراعاة حقة للنصوص، بل جاءت مخالفة في كثير منها لها، أو استخلصوها من تجاربهم القاصرة في الاستنباط والفتوى.
مع أن المتفق عليه عند أهل العلم أن الأحكام الشرعية يرجع فيها إلى النصوص الشرعية، والرجوع إليها هو رجوع إلى آلاف النصوص من الكتاب والسنة، ولما كان الرجوع إلى عشرات القواعد والكليات أسهل من الرجوع إلى هذه الآلاف، اختارت هذه الطائفة هذه الطريقة، فضلًا عن أن النصوص الشرعية تحتاج إلى تضلع من الدلالات اللفظية والمعنوية والنصية لإمكانية الاستدلال الصحيح، وقد خلا هؤلاء منه وإن كانت لديهم معرفة نظرية بها لا تطبيقية، فإن أغلبهم ممن ينتسب إلى التخصص في أصول الفقه أو انتهجه من المتفقهة، ولم يلتزموا طريقة الأقدمين في التفقه في الدين.
وطريقة الأقدمين من علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء هي الرجوع إلى الأدلة التفصيلية من نصوص الكتاب والسنة لاستخراج الحكم الشرعي.
فكان خليفة رسول الله أبو بكر، إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه قضى به، وإن لم يكن، وعلم من رسول الله قضاء قضى به، فإن أعياه جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر، قضى به.
ولقي ابنُ عمر جابرَ بن زيد, فقال: يا جابر إنك من فقهاء البصرة, وإنك تُستفتى, فلا تفتين إلا بقرآن ناطق, أو سنة ماضية, فإنك إن فعلت ذلك, وإلا فقد هلكت وأهلكت.
وكان ابن عباس إذا سُئل عن الأمر فكان في القرآن، أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله، أخبر به، فإن لم يكن، فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن، قال فيه برأيه.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن للحسن البصري: أَفْتِهِم بشيء من القرآن قد علمته, أو سنة ماضية قد سنها الصالحون والخلفاء, وانظر رأيك الذي هو رأيك فألقه.
وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر, وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث.
وقال الإمام أحمد: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عارفًا بالسنن، عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي في السنن وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها.
ثم هذه القواعد التي أحلُّوها محلَّ النصوص الشرعية في كثير منها ما يعود على أفرادها بالبطلان، وهذا يتنافى مع وصف القاعدة كقاعدة.
ولربما في المسألة الواحدة يُفتي أحدهم بقولَيْنِ متضادَّيْنِ؛ لاستناده في كل واحدة منهما على قاعدة، استجلبها ليستخرجَ منها هذه الفتوى أو تلك بحسب الحال المراد.
تعطيل مساجد جمع جماعات إغلاق قواعد كليات مفتون كورونا نصوص متكلم رأي التفقه الدين إجماع شعائر حكم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف