مدونة لبات الدخيل


قراءة نقدية لرواية "قدر الحساء" للكاتب د. محمد سالم الشرقاوي (الجزء الثاني)

لبات الدخيل | Labat Edkhil


23/12/2022 القراءات: 1397  


وهكذا جاء التميز، وأرخت الكتابة العنان للحكايات .. حكاية الأصل وحكاية الوصل وحكاية الفصل، ليتدفّق من وحي الصحراء ترانيم أغوتنا وأغوت الشعراء والأدباء احتفاء بأسرارها ونقاءها وما نحن اليوم هنا إلا لهذه الغاية،
وهنا لا بدّ من التّساؤل: هل نواجه عملا أدبيّا هلاميّا يصعب علينا لملمة أجزائه المتنافرة والمتبعثرة، أم أن قدرنا أن نؤسر في دياجير الرمزية والتلميح .. أم أن الأمر أبسط من كل هذا ولا يستدعي كل هذه التأويلات، من منطلق كسر النقد والاحتكام للأحداث ما ظهر منها وليس ما بطن كمنهجية لاسذرار الإبداع والتحايل على المتلقي؟
وفي اعتقادي أن الإجابة عن هذا التساؤل تندرج ضمن انكفاء هذا العمل الأدبيّ ضمن مرجعيات منهجية مرسومة مسبقا، تضيق أحيانا وتتّسع في أحايين كثيرة..
ونشير هنا، إلى أنّ الرّواية تشكّلت وفق هذه المرجعيات ووسمتها بطابعها الخاصّ، ضمن توافقها مع الواقع المعيش في الفترة الزّمنيّة المحددّة روائيا.
• مرجعية الروائي: وطبعا هنا أقصد شخصية الكاتب محمد سالم الشرقاوي وخلفيته الاثنية وزاده العلمي والمهني .. وطبعا هنا يطول الحديث حول هذه المرجعية ..
• مرجعية الرواية كجنس أدبي: وهنا نلحظ أن الرواية قد قطعت شوطا متقدّما في فنيّة هذا النّوع الأدبي، وهي دائمة السّعيّ في تجسيد رؤية فنيّة مغايرة للرّواية التّقليديّة، وتعتمد على البناء الهندسيّ المتمثّل في البداية والذّروة والنّهاية، والتّفاعل بين الأحداث وبين نموّ الشّخصيّات وفقا لمبدأ كرونولوجي مستساغ، الأمر الّذي يفضي إلى المبنى المتماسك ، هذا إضافة إلى عناصر فنيّة هامّة أخرى تمثّل ركائز داعمة لترسيخ هذا النّوع.
وفي الغوص بروايتنا "قدر الحساء" نجد اتّكاء الكاتب على بعض أسس هذا النّوع، انطلاقا من التّدرّج الفنيّ في تطوّر الأحداث، المتمثّل في تدبير الخلاف والاختلاف عند أهل الصحراء مع كل المتناقضات التي ميزت هذه السردية .. حتى يتخيل لك فجأة أنك فرد من هذه الشخوص أو أنك أمام رواية اللا رواية بل رواية السيرة التي تفتعل الأزمة أسلوبا للتمويه..
• مرجعية الإبداع: لقد جاءت هذه الرّواية نتيجة حتميّة لتشظّي المجتمع في فترة ما، ولتمزق مرتكزاته المبنية على التعاضد، إضافة إلى فقدان التّوازن بين الإنسان وذاته، فكان لا بدّ من كسر الرّوابط المنطقيّة ليحلّ بدلا منها التّفكّك والتّفتّت وانعدام التّناغم. وتعتمد هذه الرّواية على تفجير الحبكة، وعلى الانحرافات السّرديّة، والانتقال في الأحداث عبر الأزمنة والأمكنة.
إضافة إلى اعتماد لغة متمرّدة، تكسر المألوف، لنصل في نهاية المطاف إلى رواية راكزة تستلهم كافّة المنهجيّات وترفضها في نفس الوقت، بتمزيقها وتفتيتها.
وفي هذه الرواية قدر الحساء أيضا، قفزات عبر الأزمنة، باستخدام الّتقنيّات الزّمنيّة من الاسترجاعات المكثّفة إلى الوقفات والفجوات والبياضات والمشاهد الحواريّة الكاسرة للتعاقب الزّمنيّ، وقفزات في الحيّز المكاني الحاضن للمشاهد، فيصبح هذا المكان فاعلا في تطوير الحدث السّرديّ، في تسلسله الزّمنيّ المتفجّر والمتشظّي، والملتحم مع الشّخصيّات الّتي يمزّقها الخلاف.
أعتقد أن راوية قد الحساء لم تكن وظيفتها الأولى تقديم الوعظ أو الوصف وأخذ العبرة فحسب، وإنما هي سفر في انتربولوجيا الإنسان بهذه المناطق بالقدر الذي يتيح كيفية إدارته للأزمات مع الاحتفاظ بالجانب الروحي والعلائقي المتين .. والحقيقة أن الرواية لم تتح لي لا تلميحا ولا رمزية إسقاط تراكم الأحداث على الوضع الذي نعيشه الآن كما حاول بعض الناقدين جرها جرا إلى هذه الزاوية اللهم إلا إذا كان الأمر يهم استشراف الكاتب لأزمة الماء التي نعيشها ويعيشها العالم وهي رؤية مستبعدة .. لأن الأحداث ببساطة مشدودة بخيوط ظاهرة يتحكم بها راو عليم، يأبى في الغالب أن يتخفّى، وإن غيّب نفسه، فتقوم شخصيّات الرّواية بنقل أفكاره بلغته هو، المحمّلة بالتّقريريّة والمرصّعة بالبلاغة والاستعارات.
ومن الأمثلة التي تعزز ما استندنا عليه والتي تشكل جماليات هذه الرواية:
 الجانب الصوفي: في وصفه لتأثير الصلاة على ورائحة التراب في التحرر من أحمال الحياة،
 الجانب الإعلامي: وقد ظهر هذا الجانب ما مرة في ثنايا هذه الرواية عاكسا دور الراديو في البحث عن الأخبار، وتحديدا إذاعة لندن ودورها الكبير في مد الناس بالأخبار، هذا فضلا عن ذكر الجرائد والصحف والمجلات التي كان يطالعها الفتى محمد علي من ألفها إلى يائها ... كما حضر التليفزيون تلميحا حين أمست الشابة ميمونة في انتعال الحذاء ذي الكعب العالي وتقليد بطلات المسلسل العربي في حركاتهن وفي طريقة كلامهن.
 رمزية الاستعمال الاثنوغرافي: وهنا نخص بالذكر استعمال بعض الأعلام والمسميات ذات الحمولة الثقافية الحاضرة بقوة في الرواية من قبيل الولي الصالح المختار لعريبي ومسميات بعض القبائل مثل : ال الشويعر / ال الشين / ال الربيعة / ال المحفوض / اعرابات .. وفي اعتقادي أن الروائي نجح في هذا التوظيف الثقافي الذي يعكس صورة مجتمع أهل الصحراء في التعاضد والتعايش والألفة زمن الاختلاف.
 أنماط التواصل بين أفراد المجتمع: وطبعا كاتب هذه الرواية هو دكتور في سوسيولوجيا التواصل وقد استثمر هذا الزاد في حبك خيوط الرواية حواريا وتفاعليا بشكل متميز يحفظ لكل شخصية اعتباريتها ومكانتها .. فظلا عن حضور وجه آخر لهذا التواصل متمثلا في المراسلات الإدارية بين عمر الصافي لرؤساءه "في انتظار ردكم تفضلوا بقبول خالص تقديري واحترامي .. ومراسلة سيدي احمد إلى والدته من العاصمة العلمية (رغم تعلمه لبعض طقوس الحضارة في العاصمة إلا انه يشتاق إلى رائحة زريبته وترابها ) ، كما كان لجهاز المسجلة (السجالة) دورا مهما في تبادل الرسائل الصوتية على شرائط الكاسيط بين الأقارب في أماكن أخرى بعيدة وفي التعبئة للحملات الانتخابية .
(الجزء الثاني)


قراءة نقدية - رواية قدر الحساء - محمد سالم الشرقاوي -


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع