تدمير الممتلكات الثقافية العربية (العراق نموذجا) (1)
أ. د. محمود أحمد درويش | Mahmoud Ahmed Darwish
16/12/2022 القراءات: 1637
من خلال ملاحظة سلوك وتصرفات قوات الاحتلال في العراق نجد أنها خالفت العديد من أحكام القانون الدولي الإنساني. فلو راجعنا ما حدث في بعض الدول كالعراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن ولبنان وفلسطين لوجدنا أن معظم ما أشرنا إليه أعلاه قد حدث فيها فعلاً، وأن الأمر ليس غير مسألة وقت حتى يتحقق جميعه، وقد حذر عدد من الخبراء والمتخصصين والمهتمين بالشؤون الثقافية والتراث الحضاري من التداعيات الوخيمة والمخاطر التي تحيط بالثروة الحضارية والثقافية الموجودة في هذه الدول، والذي اتخذ أشكالا ممنهجة في تدمير الآثار التاريخية والمواقع الدينية.
وقد خالفت قوات الاحتلال الأمريكي في العراق العديد من أحكام القانون الدولي الإنساني، حيث بدأت سرقات الآثار التاريخية من اللحظات الأولى لاجتياح الجيش الأمريكي للعراق في عام (2003)، وقد بنى الجيش الأمريكي أكبر قواعده العسكرية فوق أعرق الصروح الحضارية في العالم وهي مدينة بابل الأثرية، ووضع قواعد عسكرية فوق ست عشرة مقبرة أثرية تاريخية في العراق، وليس مستغرباً ألا تتدخل القوات الأمريكية، التي احتلت العراق لمنع نهب الآثار الذي جرى أمام عدسات الكاميرات في بث حي ومباشر.
كما سعت إسرائيل بشتى السبل للحصول على أرشيف اليهود في العراق والذي نقل إلى أمريكا كاملا وسلمته إلى إسرائيل، وقد وصفت إسرائيل امتلاكها أهم الآثار عن تاريخ اليهود في العراق بالانتصار الحقيقي للأمة اليهودية، إذ حصلت على جزء أصيل ومهم هو الأفضل على الإطلاق من تراث اليهود. ويحتوي الأرشيف اليهودي أيضا على وثائق وتحف نادرة موثقة للعهود التي سبي خلالها اليهود في العراق وهما السبي البابلي الأول والسبي البابلي الثاني، إضافة إلى آثار يهود العراق الموجودين أصلا في هذه الأراضي آنذاك، كما يحتوي أيضاً على آثار تعود إلى أزمان أبعد من العهد البابلي، أهمها أقدم نسخة للتلمود وأقدم نسخة للتوراة ومخطوطات أخرى.
وتم الاستيلاء على الكنز الخرافي من الذهب والمكون من (650) قطعة ذهبية أثرية والذي يعود إلى الملك السومري نمرود ، وتم سرقة عشرة آلاف قطعة أثرية مسجلة أثناء الهجوم الأمريكي على العراق موزعة على متاحف نيويورك وبنسلفانيا ومدن أمريكية أخرى، حيث أخرجت القوات الأمريكية والبريطانية أكثر من ثلاثة آلاف وثيقة و(80) ألف قطعة أثرية معها، وعرضت أمريكا إعادة (3500) قطعة إلى العراق مقابل إعادة العلاقة مع وزارة السياحة والآثار العراقية، وهو ما تم رفضه رفضا قاطعا، وقد استعاد العراق (4764) قطعة أما غير المسجلة فتبلغ (117) ألف قطعة.
وقد دمرت أعمال النهب التي شهدها العراق مجموعات فريدة من آثار حضارات ما بين النهرين التي كانت تعرضها المتاحف. كما نهب متحف الموصل وأشعلت النيران في المكتبة الإسلامية في بغداد والتي تضم مخطوطات أثرية من بينها واحدة من أقدم النسخ الموجودة من القرآن، أما ما سلم من النهب والتدمير من آثار العراق فإنه لم يسلم من الإهمال. ولا زال في حوزة إسرائيل كميات كبيرة من كنوز العراق التاريخية، ويكفي أن (1000) قطعة أثرية عراقية معروضة حاليا في متحف الأرض في إسرائيل.
يسلط البحث الضوء على حجم الأضرار الهائلة التي أصابت الممتلكات الثقافية العراقية نتيجة للظروف التي أفرزتها عملية غزو قوات التحالف الدولي للعراق، فيما يتعلق بالكارثة التي حلت بالموروث الثقافي العراقي، توجد صلة بين الأضرار التي تصيب الموروث الثقافي العراقي حاليا، والإرهاب وهي الظاهرة التي تخلق الظروف المواتية للنهب والانتقال غير الشرعي للمواد الثقافية عبر الحدود الوطنية، ويسلط الضوء على التحديات الداخلية والخارجية من أجل استرداد ما يمكن استرداده من ممتلكات ثقافية خرجت بطرق غير شرعية وحماية ما هو موجود من موروث ثقافي، خاصة المواقع الأثرية.
إن الأضرار الهائلة التي أصابت الموروث الثقافي العراقي بين عامي (1990 و 2003) واقعة معروفة، وهذه الأضرار كانت نتيجة مباشرة لوقوع سلسلة من الأحداث المؤلمة بما في ذلك حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران (1980-1988) وغزو دولة الكويت (1990) وحرب الخليج الثانية (1991) والانتفاضات الشعبية التي عمت مدن وقرى المحافظات الجنوبية والشمالية في ربيع عام (1991) والحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق خلال تسعينيات القرن الماضي.
كما شهدت تلك الفترة تقلصا شديد في الأموال المخصصة من قبل السلطات المركزية في بغداد لحماية الموروث الثقافي الوطني في الوقت نفسه، ازدادت أعمال نهب المواقع الأثرية بشكل مضطرد وبموازاة تدهور الوضع الأمني والنظام العام. إن انتشار الفاقة والجهل وظاهرة الفساد بين بعض المسئولين تفسر أيضا ارتفاع أعمال النبش والتهريب والاتجار غير القانوني في الممتلكات الثقافية، ولم يُكتَشَف إلا مؤخرا أنه في أعقاب حرب الخليج الثانية تم تهريب ما يقارب (10000) لوحة مسمارية قديمة، ترجع في تاريخها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهي حاليا في حوزة جامعة كورنيل الأمريكية.
إن ما وقع من ظواهر أثناء الغزو وفي أعقابه يُعد كارثة وطنية لم يشهدها أي بلد في التاريخ الحديث، حيث تركت أحداث غزو العراق واحتلاله تأثيرات مدمرة هائلة غير مسبوقة على الموروث الثقافي العراقي، حيث تكبدت البنية التحتية للمؤسسات الثقافية العامة والمراكز الأكاديمية أضرارا وخسائر بما في ذلك سرقة الآلاف من القطع الأثرية القديمة والمواد الثقافية الأخرى، وصاحبت تلك الأعمال تخريبا متعمدا للكثير من العناصر المكونة للموروث الثقافي العراقي، واختفت داخل العراق أو نقلت إلى خارجه بشكل غير قانوني الملايين من الملفات الخاصة بالدولة، كما سرقت الآلاف من المواد الثقافية الأخرى من كتب نادرة ومخطوطات قديمة وأعمال فنية لكبار الفنانين العراقيين. كما أن قوات التحالف الدولي أسهمت بشكل مباشر في تعرض المواقع الأثرية خاصة في بابل إلى خطر حقيقي من خلال إقامة قواعد عسكرية لها فيها.
العراق، القانون الدولي، التراث الحضاري، مدينة بابل، كنز نمرود.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة