المشاعر قبل الدرجات: مفتاح التعلم الفعّال وبناء الإنسان
د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim
01/02/2025 القراءات: 10
في عالم التعليم التقليدي، غالبًا ما يُنظر إلى النجاح الأكاديمي من زاوية الدرجات والقدرات المعرفية فقط، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فالتعليم ليس مجرد عملية حفظ معلومات أو حل مسائل رياضية، بل هو تجربة إنسانية متكاملة تسهم في تشكيل شخصية المتعلم. المشاعر، القيم، الدوافع، والاهتمامات ليست مجرد عناصر ثانوية؛ بل هي الأساس الذي يُبنى عليه التعلم الفعّال.
فلماذا تعتبر المشاعر أكثر تأثيرًا من الذكاء في النجاح الأكاديمي؟ وكيف يمكننا تعزيز الجوانب الوجدانية لدى الطلاب لجعل التعلم أكثر إبداعًا ومتعة؟
الجوانب الوجدانية: الأساس الخفي للتعلم:
تُعرف الجوانب الوجدانية بأنها مجموعة من المشاعر والدوافع والقيم التي تحرّك عملية التعلم. يمكننا تشبيهها بأساس البناء، حيث تمثل المشاعر والاهتمامات القاعدة التي تقوم عليها المهارات والمعرفة. بدون أساس متين، حتى أغلى المواد ستنهار.
لماذا الجوانب الوجدانية هي الأساس؟:
عندما يشعر الطالب بالشغف والاهتمام تجاه موضوع ما، يتحول التعلم إلى مغامرة شيّقة، مما يعزز الفهم العميق والاستيعاب طويل الأمد. على العكس، عندما يُفرض عليه التعلم بدون ارتباط عاطفي، يصبح الأمر أشبه بالسير في طريق موحل، حيث يصبح التعلم بطيئًا ومرهقًا.
على سبيل المثال، عندما يدرس الطالب مادة التاريخ من خلال قصص بطولية تحمل قيمًا مثل العدالة والشجاعة، فإنه يتفاعل معها باندماج عاطفي، مما يجعل التعلم أكثر جاذبية واستدامة. هذه الاستراتيجية ليست مجرد نظرية، بل أثبتت التجارب التربوية أن الطلاب الذين يتعلمون من خلال محتوى يرتبط بمشاعرهم وقيمهم يحققون نتائج أفضل من غيرهم.
المعرفة وحدها لا تكفي: المشاعر تقود التفوق الأكاديمي:
تشير الأبحاث إلى أن الطلاب ذوي الدوافع العالية يحققون نتائج أكاديمية أفضل بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بمن يعتمدون على الحفظ فقط. يعود السبب إلى أن الحافز الداخلي يُحفّز العقل على البحث والاكتشاف، بينما يؤدي التعلم القائم على الإجبار إلى استرجاع سطحي للمعلومات يختفي بمجرد انتهاء الامتحان.
دراسة حالة: كيف غيّرت المشاعر مسار طالب؟
كان "محمد" يُعتبر طالبًا ضعيفًا في الرياضيات، لكنه اكتشف شغفه بالتكنولوجيا عندما انضم إلى مسابقة للبرمجة. هذا الحافز العاطفي جعله يرى الرياضيات بطريقة جديدة كأداة لتحقيق طموحه في البرمجة، مما أدى إلى تحسّن أدائه الدراسي ليصبح من الأوائل في مادته.
يقول محمد:"عندما أدركت أن الرياضيات هي لغة البرمجة، أصبحت أدرسها لساعات دون الشعور بالملل."
هذا المثال يوضح كيف أن المشاعر يمكن أن تحول الطالب من غير مهتم إلى متعلم متحمّس ومستعد لبذل الجهد والتفوق.
دروس من التاريخ: عندما قادت المشاعر ثورات علمية:
ليس محمد وحده، بل عبر التاريخ، لم يكن العلماء والمفكرون الكبار مجرد أصحاب عقول متقدة، بل كانوا يتمتعون بشغف عميق تجاه العلم.
- الإمام البخاري لم يكتفِ بجمع الأحاديث، بل كان لديه ولع بالبحث والتدقيق، مما دفعه للسفر سنوات طويلة للتأكد من صحة كل حديث.
- ابن النفيس رفض أن يكون مجرد تابع للطب التقليدي، وبدافع من فضوله اكتشف الدورة الدموية الصغرى، مُسبقًا بذلك الغرب بقرون.
- ألبرت أينشتاين لم يكن مجرد عالم رياضيات، بل كان طفلًا فضوليًا يسأل: "لماذا تسقط التفاحة؟"، مما قاده إلى صياغة نظريته الشهيرة عن النسبية.
- ستيف جوبز لم يكن مجرد مهندس، بل كان مهووسًا بابتكار أجهزة تكنولوجية تدمج بين الجمال والوظيفة، مما أدى إلى ثورة في صناعة الهواتف الذكية.
في كل هذه الأمثلة، لم يكن الذكاء وحده هو العامل الحاسم، بل كان الشغف هو القوة الدافعة وراء الإنجازات العظيمة.
كيف نُنمّي الجوانب الوجدانية لدى الطلاب؟
بما أن المشاعر تلعب هذا الدور الكبير في التعلم، فمن الضروري أن نعيد النظر في أساليب التعليم بحيث تركز على تحفيز الدافع العاطفي لدى الطلاب.
نصائح عملية للمعلمين وأولياء الأمور:
1. ربط المناهج باهتمامات الطلاب: اكتشاف ما يحبه الطالب وربطه بالمادة الدراسية يجعله أكثر حماسًا. إذا كان الطالب مهتمًا بكرة القدم، يمكن استخدام الإحصائيات الرياضية لتعليمه الرياضيات.
2. تشجيع الأنشطة اللامنهجية: مثل المشاريع التطوعية والمسابقات العلمية، التي تعزز القيم وتربط التعلم بحياة الطالب.
3. إعطاء مساحة للنقاش والأسئلة: عندما يشعر الطالب بأن رأيه مهم، تتولد لديه الرغبة في البحث والاستكشاف.
4. استخدام التعلم القائم على المشاريع: عندما يرى الطالب أثر عمله في مشروع حقيقي، فإنه يتذكر المعلومات لفترة أطول ويشعر بالإنجاز.
الخاتمة: التعليم من القلب أولًا
التعليم ليس مجرد نقل معلومات، بل هو بناء شخصية متكاملة. عندما نستثمر في المشاعر والدوافع الداخلية للطلاب، فإننا لا نخلق فقط طلابًا متفوقين أكاديميًا، بل نصنع مفكرين مستقلين، مبدعين، ومستعدين لمواجهة تحديات الحياة.
فلنجعل شعارنا في التعليم: "نربي القلب أولًا... والعقل سيتبع".
تربية، فكر، نهضة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة