مدونة يوسف دفع الله حسين محمد


قراءة (لكن) بين الإعمال والإلغاء

د. يوسف دفع الله حسين محمد | Yousif dafa alla husin mohmmed


05/07/2022 القراءات: 2052  


تعددت قراءة الحرف (لكن) بين القراء في بعض المواضع من القرآن الكريم، وقد أدى هذا التعدد إلى اختلاف بين النحويين تمثل في تخفيفه وإعماله من عدمه وبعضهم تناقضت آرائه في إعمال هذا الحرف، فهذ أبو علي الفارسيُّ تحدث عن (لَكن) مبيناً رأيه من القراءات التي وردت فيها مخففة ورفع ما بعدها، في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) سورة البقرة ١٧٧، وقوله: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) سورة البقرة189، حيث قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائيّ بتشديد النون ونصب (البرَّ)، وقرأ نافع وابن عامر بالتخفيف وكسر النون ورفع البرَّ، ولم يؤيد إعمالها إذا خففت، فقال: "لم نعلم أحداً حكى النصب في (لكن) إذا خففت فيشبهُ أنَّ النصبَ لم يجيء في هذا الحرف مخففا، ليكون ذلك دلالة على أنَّ الأصل في هذه الحروف أنْ لا تعمل إذا خُفِّفت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف، وأنَّ من خفَّف ذلك؛ فالوجهُ أنْ لا يُعمله"، وقد أكَّد ذلك في موضع آخر بقوله: "والأصل في هذه الحروف إذا خُفِّفت أنْ لا تعمل لزوال المعنى الذي به كان يعمل، ولذلك لم تُعمل (لكن) مخففة"، وبالرغم من ذلك نقل حكاية أبي عمر عن يونس الذي يأجاز إعمالها مخففة، وقد انتصر الفارسي لرأي يونس، بل ذكر أسباب قوة إعمالها، فقال: "ويقوِّي هذا القول أنَّ من أخوات لكن مما حُذف منهنَّ لم يخرج أخواتها عنه بالتخفيف عن ما كانت عليه قبل التخفيف، ألا ترى أنَّ (إنَّ) و(أنَّ) و(كأنَّ) كذلك، ومثلُها (لعلَّ) فالقياس في (لكن) أنْ يكون في التخفيف على ما عليه أخواتها، ولا تخرج بالتخفيف عما كانت عليه، كما لم تخرج أخواتها عنه"، وهو بهذا لايرفض وجه يونس في إعمالها، وهذا يناقض رأيه في (المسائل المنثورة)، حيث رجَّح إعمالها مخففةً على الإلغاء، فقال معلقا على: (ما ضربت زيداً لَكِنْ عمرًا)، "والوجه في ذلك ما قاله يونس، قال: لأنَّ (لَكن) إنَّما تدخل إذا كانت مشددةً على الابتداء والخبر، فتخفيفها لا يخرجها عمَّا كان لها في الأصل؛ لأنَّها لا تنفرد إلَّا بمبتدأ وخبر، فلم يكن تخفيفها مما يوجب خروجها عما هي عليه في الأصل"، وقد أكد إعمالها بقوله: "ووجه آخر وهو أنَّ هذه الحروف إذا خُفِّفت لا تنتقل عمَّا كان لها في الأصل، ألا ترى أنَّ (كأنَّ) إذا خُفِّفت لا تدخل إلَّا على مبتدأ وخبر كما كانت مُثقَّلة، فكذلك (لَكن) بمنزلتها؛ لأنهَّا أختها"، فكما نرى فهو في (الحجة) قدَّم الأصل على القياس في إلغاء إعمالها، بينما قدَّم في (المسائل المنثورة) رأي يونس.
إنَّ أغلب النحويين يجيز إلغاء عمله مخففا، معتمدين على القياس، وقليل منهم يعتمد على السَّماع عن العرب، رغم أن هذا السَّماع مشكوك فيه عند بعض النحويين، فرأي المنع يتمثل في رأي جمهور النحويين ، فهذا سيبويه يقول: "واعلم أنهَّم يقولون: إنْ زيدٌ لذاهبٌ، وإنْ عمروٌ لخيرٌ منك لمَّا خفَّفها جعلها بمنزلة (لَكن) حين خفَّفها، وألزمها (اللام)؛ لئلا تلتبس بـ (إنْ) التي هي بمنزلة (مَا) التي تنفى بها" فهو لا يجيز إعمالها مخففة، وقد تبعه الفرَّاء، فقال: "ومن خفف نونها وأسكنها لم يعملها في شيء لا اسم ولا فعل، وكان الذي يعمل في الاسم الذي بعدها ما معه ينصبه أو يرفعه، أو يخفضه"، فلا عمل لـ(لكن) عنده في حال تخفيفه، دون أن يعللوا ذلك، إلا أنَّ أبا علي الفارسيِّ قد ذكر سبب المنع وأرجعه إلى زوال الشبه بين الفعل و(لكن) بعد تخفيفها، كذلك نلاحظ أنَّ تخريج مكي ابن أبيس طالب، والعكبريّ، لقراءة من خفف (لَكن) يؤيد منع إعمالها مخففة، وكذلك ابن يعيش، حيث قال: "ولا نعلمها أعملت مخففة كما أعملت (أنَّ) وذلك أنَّ شبهها بالأفعال بزيادة لفظها على لفظ الفعل، فلذلك لماَّ خُفِّفت وأُسْكِنَ آخرها بطل عملها إلَّا أنَّ معنى الاستدراك باقٍ على حاله".
وإذا أخذنا بالاختصاص في (لكن) نجد أنَّ الرأي الراجح ألا تعمل لزوال شبه (لكن) بالأفعال، وبالتالي زول اختصاصها بالأسماء، وجواز دخولها على الأفعال، وبما أنَّ الاختصاص يعدُّ شرطاً أساسياً لعمل الحروف فإنَّ وجه الإهمال يتفوق على وجه الإعمال، وفي قول ابن يعيش دليل على ضعف الإعمال، وقلته رغم نقله لرأي يونس، وكذلك منع إعمالها مخففة كل من أبي حياَّن، والسَّمين الحلبيّ، وابن هشام، والأزهري.
أما الرأي الثاني يتمثل فيمن أجاز الإعمال إذا خُفِّف، وهو رأي يونس والأخفش، وقد نقل أغلب النحويين عنهم، وهذا الرأي يتحتاج إلى نظر؛ لأنَّ هذا الحرف فقد الاختصاص بزوال التشديد، إضافة إلى عدم وجود شواهد عند العرب تؤيد إعماله، كما أنَّ نقل يونس عن العرب تعرضت للتشكيك من عدد من النحويين، ورغم ذلك أيد الفارسيّ رأي يونس في جواز الإعمال مستنداً على تضمنه معنى الاستدراك مشدداً كان أو مخففاً، وأنَّ بقية حروف بابه عندما خُفِّفنَ لم يخرجن بالتخفيف عما كنَّ عليه قبل التخفيف، وعدم اختلاف المعنى وحده لا يجوِّز إعماله مخففا لأنه لا تعضده شواهد من كلام العرب.
وفي الختام نرى أن الرأي الراجح هو مذهب الجمهور الذي يمنع إعماله إذا خُفِّف؛ بحكم أن تخفيفه أزال عنه شبه الفعل فزال اختصاصه، كما نلاحظ أن عدم وجود نصوص شعرية أو نثرية عند العرب عمل فيه ناصباً للاسم، كذلك نجد أنَّ حكاية يونس عن العرب مبنية على السَّماع دون إثبات صحتها ودعمها بشواهد، إضافة إلى أن القراءات التي ورد فيها الحرف (لكن) مخففا لم يكن عاملاً بل جاء الاسم بعده مرفوعا وليس منصوبا.


لكن - القراءات - الإعمال والإلغاء


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع