مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


فتنة نشر الكرامة بين العامة

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


12/02/2025 القراءات: 9  


فتنة نشر الكرامة بين العامة
لقد جعل الله تعالى لهذا الكون سُنناً يسير وفقها، فجعل النار تحرق بعض الأجسام القابلة للاحتراق، وجعل الماء غير قابل لأن يمشي عليه الإنسان بلا واسطة، ولم يجعل في مقدور الإنسان أن يطير في الهواء بلا واسطة.
هذه السنن التي وضعها الله تعالى قد يخرقها لبعض الأشخاص لكن إن كان خرقها على يدي نبي أو رسول سُمّي خَرْقُها (معجزةً)، والمعجزة تكون مقرونة بالتحدي في بعض الأحيان وبدعوى النبوة، وتكون تأييداً من الله تعالى للنبي وترسيخاً لإيمان المؤمنين به، كانشقاق القمر، ونزول القرآن أعظم معجزة رسولنا على الإطلاق، وقد ذكر القرآن الكريم معجزات كثيرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وإن كان خرق العادة على يدي رجل صالح سُمي خرقُها (كرامةً)، ويجريه الله تعالى على أيدي الأولياء بدعائهم أو بدونه كرامة لهم، وإن لم يعلموا به، كما وقع لأصحاب الكهف، وقد ورد ذكر الكرامة في القرآن الكريم، قال تعالى عن مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّا} [مريم:25]، وقال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37]، كما جاء الإخبار عن الكرامات في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالظلة التي وقعت على أسيد بن الحضير حين قراءته القرآن، وكإضاءة النور لعباد بن بشر وأسيد بن حضير حين انصرفا من عند النبي صلى الله عليه وسلم فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف سوطه، وشرط كونها كرامة أن يكون من جرت على يده هذه الكرامة مستقيمًا على الإيمان ومتابعة الشريعة، والكرامة مستمرة في هذه الأمة إلى قيام الساعة غير أنها تقلّ وتكثر وفق حكمة الله تعالى، ولذلك وجَبَت طاعةُ النَّبيِّ مُطلَقًا، ولا تَجِبُ طاعةُ الوَليِّ مُطلَقًا، إلَّا فيما عليه دَليلٌ شَرعيٌّ واضِحٌ.
وتقع الكرامة لأسباب؛ منها: تقوية إيمان العبد وتثبيته؛ ولهذا لم ير كثير من الصحابة شيئا من الكرامات لقوة إيمانهم وكمال يقينهم، ومنها: إقامة الحجة على العدو كما حصل لخالد لما أكل السم، وكان قد حاصر حصناً، فامتنعوا عليه حتى يأكله، فأكله، وفتح الحصن، ومثل ذلك ما جرى لأبي إدريس الخولاني لما ألقاه الأسود العنسي في النار، فأنجاه الله تعالى من ذلك؛ لحاجته إلى تلك الكرامة، وكقصة أم أيمن لما خرجت مهاجرة واشتد بها العطش سمعت حساً من فوقها، فرفعت رأسها، فإذا هي بدلو من ماء، فشربت منها ثم رفعت.
ولكرامات الصحابة منزلة خاصة، إذ ميزتها أنها من دلائل النبوة؛ دلائل لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ألف كثير من العلماء كتباً في ذلك وسموها (دلائل النبوة)، لأنه ما حَصَلَ لهم هَذا الإكرامُ إلَّا ببَركةِ اتِّباعِ خيرِ الأنامِ عليه من اللهِ تعالى أفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.
قال ابنُ كثيرٍ في البداية والنهاية:9/ 307: "ذَكَر غيرُ واحِدٍ من العُلماءِ أنَّ كراماتِ الأولياءِ مُعجِزاتٌ للأنبياءِ؛ لأنَّ الوَليَّ إنَّما نالَ ذلك ببَركةِ مُتابَعَتِه لنَبيِّه، وثَوابِ إيمانِه به".
ومِنَ الفُروقِ بينَ المُعجِزةِ والكرامةِ، أن ثمرة المعجزة تعود بالنفع والفائدة على الغير، أما الكرامة ففي الغالـب خاصة بصاحبها، والأنبياء يحتجون بمعجزاتهم على المشركين لأن قلوبهم قاسية، بينما الأولياء يحتجون بالكرامة على نفوسهم حتى تطمئن وتوقن ولا تضطرب، وكذلك الكرامةَ تَحدُثُ بحَسَبِ حاجةِ الوَليِّ، أمَّا المُعجِزةِ فهي لحاجةِ الخَلقِ وهدايَتِهم، وصاحب المعجزة (وهو النبي أو الرسول) مأمور بإظهارها، بينما الكرامة مبناها على الكتم والستر، وصاحبها (وهو الولي) يَجتَهِدُ في كِتْمانِها، ويَخافُ أنَّها من قَبيلِ الِاستِدراجِ له، ويَخافُ الاغتِرارَ لدى الِاشتِهارِ، فإنْ أطلَعَ اللهُ تعالى عليها بَعضَ عِبَادِه، كانَ ذلك تَنبيهًا لِما أطلَعَه اللهُ تعالى عليها على حُسْنِ مَنزِلةِ صاحِبِ الكرامةِ عِندَه، أو على صِدقِ دَعواه فيما يَدَّعيه من الحالِ، وصاحِبُ الكرامةِ لا يُؤمَنُ تَبَدُّلُ حالِه.
ومن مبالغة الأولياء في ستر الكرامة القول المأثور عن الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: "إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض".
ومما ينبغي العتب عليه كثيراً في هذا الزمان أن نجد كثيراً من المريدين ليس لهم حديث عن شيوخهم سوى ذكر كراماتهم، وهذه إساءة للشيخ من حيث لا يدري المريد، إذ الشيخ ستر على نفسه، وقد ستره الله تعالى؛ فليس من الأدب أن نفضح هذه الكرامات بين الناس ونظل نتحدث بها في مجالسنا، لأن هذه الكرامات متى نشرت بين الناس ستلوكها ألسنة الكذابين وما أكثرهم هذه الأيام، ويضيفون إليها بهارات وكرامات من خيالاتهم الشيء الكثير، ولو يدري المريد كم سيؤذي هذا الكلام للشيخ ما فعل ذلك، لأن الشيخ يَجتَهِدُ في كِتْمانِها، والمريد ينشر سره.
وقد حدثنا الشيخ أسامة الرفاعي حفظه الله تعالى أن والده الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله تعالى كان إذا حدثه أحد بكرامة لأحد الشيوخ، يسكت، فإذا تحدث آخر بكرامة أخرى يتضايق، وإذا حكى الثالث نهاه وأمره بقراءة كتاب علمي مفيد، لأن التغالي في مثل هذه الأمور، يجر إلى تضخيمها وتهويلها ودخول الكذب فيها.
وستجد كثيراً من المهاترات في هذا الشأن بين العامة، حين تجد فريقين لشيخين، وكل فريق يتحدث عن كرامات شيخه، نسأل الله السلامة.
ولذلك قال محمد رشيد رضا في محلة المنار المجلد 6 - الصفحة 109: "أكبر ضرر وأعظم فتنة في فشو الاعتقاد بالكرامات بين العامة وكونها عند الصالحين صناعة من الصناعات، وأنها زلزلت قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك الأصغر والأكبر".
فالاستقامة عين الكرامة، وقد قال القُشيريُّ رحمه الله تعالى: "اعلَمْ أنَّ أجَلَّ الكراماتِ الَّتي تَكونُ للأولياءِ: دَوامُ التَّوفيقِ للطَّاعاتِ، والعِصمةُ عَنِ المَعاصي والمُخالَفاتِ" [الرسالة القشيرية:2/ 526].7
وفي شرح الطحاوية قال ابنُ أبي العِزِّ: "إنَّما الكرامةُ لُزومُ الِاستِقامةِ".


فتنة، نشر الكرامة، بين العامة، معجزة، الاستدراج


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع