قراءة في رواية الدجال- لشوقي الصليعي
الدكتور علي حفظ الله محمد | Dr. ALi Hifdallah Mohammed
28/05/2022 القراءات: 1492
عندما تسمع، أو تقرأ لفظة “الدَّجّال” لأول وهلة تنبئك أو تحيلك إلى الشخصية العقدية المعروفة لدى الناس، وما ستقوم به في واقع مستقبلي متخيل، أو تصرفات خارقة للعادة، من تلك الشخصية المتخيلة ودورها العقدي الأيديولوجي، ولمّا تمعن النظر في “رواية الدّجال” وتقرأها تجدها تجسيدًا للواقع؛ عبّرت عن مجتمع معاش اختلط فيها القديم بالحديث، والحداثة بالأصالة، والمدنية بالقروية؛ والسلم بالإرهاب، والهجرة بالاستقرار؛ فكانت واقعية ميتافيزيقية في آن واحد؛ فلسفية ومنطقية؛ نصا ونصا موازيًا (مناصا)؛ باختصار اجترار للواقع العربي الحياتي المعاش البئيس بكل تفاصيله وشرائحه المجتمعية؛ فعبّر عن ذلك بألفاظ من كل العلوم والثقافات العربية والغربية؛ وهذا يؤكد اطلاع الروائي شوقي بشكل كبير؛ وأنه ذو معرفة دقيقة بدقائق الأمور، وخبرة بمختلف شرائح وطبقات المجتمع من لدن الفلاح والمزارع في الأرياف والقرى والرساتيق، إلى طبقة العُمّال البسطاء في مؤسسات الدولة وما ينالوه من أجور غير مجزية، إلى طبقة الأكاديميين المتعالين حد تعبيره؛ والنقاد المغرمين بالنقد والنقد الجمالي حد لا يُشفى؛ النقد الذي يتحرك للنص؛ بعيدًا عن أي أثر إديولوجي أو تعاطف أجوف؛ والفنانين الرسامين، وغرامهم بالرسم حد افتتانهم به؛ واعتقادهم بأن على الطبيعة أن تحاكي رسومهم؛ لأنها لغة الحياة الفلسفية؛ نظرا لسعة خيالهم الواسع، ودقة أعمالهم الهندسية الساحرة، وطبقة الأحزاب والسياسيين الذين يقودون أي قطر عربي، وما يميزها أنها جمعت كل الظواهر المجتمعية المتفشية بين دفتيها؛ وما يلفت أن فقراتها الحميمية عفيفة ما يمكّنُها أن تقرأ من كل الفئات العمرية عكس بعض الروايات التي كانت أشد صراحة وبوحا وانفتاحا مثل رواية الخبز الحافي لمحمد شكري مع ارتباطهما في معالجة نفس الأوضاع المتردية؛ هذا التصور للرواية يكاد ينطبق على معاناة الناس في أغلب الأقطار العربية لاسيما الواقع المجتمعي للروائي بشكل أخص؛ لأنه منبع الإحساس والشعور الذي تولّد منه كل هذا التدفق المتميز، والدلالات الكثيفة، والعواطف الجياشة، للتعبير عن مكنون المعاناة الفردية والجمعية، وتقلبات الحياة بين فرح عميق وحزن شديد؛ وبين انتشاء زاخر وكآبة قاتمة؛ أبى الروائي شوقي إلاّ أن يُجسّد كل ذلك واقعيًا، وليس له أيُّ جنايَة في ظواهرها التي اقتحمت حياة البشرية حتى أصحبت سلوكا لا ينكر..
مثَّل الروائي شوقي بذلك كثيرًا من العصف الذهني للقارئ، وجعله يعيش الحياة بكل تقلباتها وعواصفها التي تعصف بالإنسان على مدار حياته؛ كما إن أبرز ما لفت نظري هي تلك الومضات التي كان يفتتح بها كل فصل إذ عبّرت عن خلاصة التجارب الحياتية في كل مجال وكل فن؛ فجمع الومضات من أفواه وأقوال الأعلام في كل العلوم والفنون فأضفى بها أقوى الدلالات التعبيرية عن تجربة حياتية واقعية؛ كقول نيتشه: «في الحب الحقيقي، الروح هي التي تحتضن الجسَد»؛ وقول بلزاك: «وراء كل ثروة عظيمة جريمة»؛ ومثل صيني يقول: «إذا أَوكَلتَ لِقطٍّ حِراسة الحليب، فسَوف يلعق الإناء»؛ وقول توباك شاكور: «يمتلكون أموالًا للحروب؛ لكنّهم لا يستطيعون إطعام الفقراء».
وأما الظواهر المجتمعية التي عرضتها رواية الدجال فهي من واقع حياة الناس؛ وسنعرض أغلبها باختصار وبنصوص دالة من واقع الرواية تبين كيف تناولها شوقي بالنقد في سبيل استصلاحها؛ ومن أهمها ما يمكن تسميته بـ«ظاهرة الانفتاح والحرية»: وهي من أجمل المواقف التي عالجتها الرواية؛ ومثّل لها بحالة مريم وأمها الأرملة شارلوت بقوله: “حين كانت مريم تنتشي متطلعة للحياة فتبدو طفلة في المشهد وقد وضعت قدميها الناعمتين في أوّل تماسّ مع ماء البحر، على الحوافّ حيث تسْتريح نهايات المَوج ويتألق اللون في أبلغ تعبيريّة عن بلّوريته وتتلاشى فقاقيع الزّبد المُتناثرة. كانت الظلال والأضواء تتشابك حول غصنها الغضّ وشعْرها الذّهبي المُبتل، فتضفي على مُحيّاها آيات من السّحر وتحت قدمي عروس البحر الصّغيرة تطفو مملكة من القواقع والأصْداف تُشعّ بلمسة من نُور طري، بينها ودعة خرافيّة ملساء، تجلل ألوانها نقطة سوداء، تتجلّى لعين الناظر المُتوسّم شامة على خدّ أسيلٍ”؛ مثّلَ شوقي بهذا النص تطلع مريم للحياة وخروجها في الصباح الباكر تتمتع بمناظر البحر؛ وتتأمل مفاتن الحياة؛ لتنفّس عمّا في نفسها من كبتٍ وتفرغ حمولتها من الغرام في الطبيعة؛ وبينما هي على هذه الحالة من عبثِ الحياة ما لبثت أن انتقلت بها الحياة إلى بؤسٍ شديدٍ تمثل في موت والدها حد قوله: “فوشَّحَ الحُزنُ حياة مريم مُنذ وفاة والدها الذي تعبده ولا تنام إلا مُتعلقة برقبته بوشاح من الأسى فكانت تغرق في عطره الدّافئ وقد تسَللت أناملها الغضّة بين قميصه وبشرته مُطلقة زخّات من التنهدات، بطريقة طالمَا أثارت غِيرة شارلوت. كانت هذه البنت المُتوجّعة تُدْمن الانطواء في ركن من سريرها، مُتلحّفة بزنّار خفيف لا يزال يعبق برائحة الفقيد الممْزوجة بالعطر والتبغ، فتغمر رأسَها بنعاس وهمي وتنزلق في بؤرة كوابيسها الحالكة مُحلقة في سَماء عواطفها المليئة بالأسَى كطائرة ورقيّة تمزّق الخيط الذي يربطها بالواقع. وأمّها تحاول انتزاعها من هذه التأملات القاتلة مُسْتنفدة كلّ الإغراءات المُمكنة، مُسلّمة في الختام بهذه العلّة الدّخيلة التي أصابت فلذة كبدها وكادت تحيلها إلى رماد، غير أنّ هذا الإهمال اللاإرادي المُزمن- وقد بلغ مداه- أثمر نتائجه العكسيّة فتخلصت مريم بعد لأَيٍ من ألمها الذي بلغ ذروته وكاد يودي بها إلى الجُنون…؛ وبين فينة وأخرى صارت تنهمك في اللعب بروح نهمة وتنغمس بكل كيانها في مُطالعة القصص وتصغي إلى المُوسيقى بطريقة لا تبدو معها موجودة في هذا العالم كأنّها ورقة وردٍ خفيفة محمولة فوق مياه مُنسابة، فصارت تعتني بالحديقة وتراقب نموّ البراعم حتى سئم البُسْتاني من تدخلاتها الفوضويّة..
إن ما يميز هذه النصوص كثافة الصورة في حياة مريم واختزالها لكثير من القول في جُلِّ مواقع الحياة المعاشة؛ كقوله: لا تذكر مريم بالتّدقيق عبر أيّ الدّروب قادتها خُطاها إلى الشّاطئ الذي يحدث أن تهجره
رواية، الدجال، الصليعي
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع