إكسير حيوية الشهود الحضاري للأمة
د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim
03/03/2024 القراءات: 716
أقام الله تعالى الدنيا على سنن كونية لا تحابي نبيا ولا وليا، ولا تتأثر باختلاف الزمان ولا المكان، وكما أجرى الله سبحانه وتعالى قانون (الحياة) على الأحياء، أجراه أيضا على الحضارات: صعودا وهبوطا، فإن لكل شيء إذا ما تم نقصان، حيث يبدأ النمو من لا شيء حتى يصل إلى قمته، ثم يبدأ في الانزواء والهبوط إلى حيث بدأ؛ أي النمو يأخذ خطا منحنيا، ويظل النمو صاعدا ما دام هذا المجتمع تدب فيه الحيوية والفعالية في مواجهة التحديات، ويكتسب المجتمع حيويته من القدرة على التجديد، والذي يرادف: البعث والإحياء في نصوص الوحي. ومن هنا فإن التجديد يعني: التكيف مع المتغيرات التي تفرضها طبيعة المكان وتعاقب الزمان في إطار أصول الوحي المعصوم، وهذه المتغيرات تشكل تحديات قد تبطئ من نمو الحضارات وقد توقفه بحسب قوة التحديات، كما يحدث مع الأحياء بحسب قوة الأمراض.
وقد حفظ الله تعالى لهذه الأمة حيويتها الحضارية، رغم أنها قد تمرض لكنها أبداً لا تموت، حيث امتن عليها وقدر أن يبعث لها على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، (كما ورد في سنن أبو داوود وصححه الألباني)، وعلى الأساس تتحدد خصائص المجدد في القدرة على تكييف وتطويع المتغيرات مع الأصول والثوابت، وكذلك تنقية الموروثات القديمة التي لحقها التغيير والابتداع إلى حالتها التي كانت عليها، والدين هنا لا يقتصر على العبادات، بل يشمل معه المعاملات والعقائد والأخلاق، فيحي ما اندرس منها، ويأد ما ابتدع عليها، ويطوع ما استجد عليها، ويجدد في فروعه وفق مقومات أصوله بما يناسب ظروف العصر ولا يخرج عن ثوابت الوحي. ومن ثم فإن المجددون هم الأطباء الذين يمتلكون القدرة على تشخيص أدواء الأمم ووصف الدواء المناسب، الذي به تستعيد الأمم حيويتها الحضارية.
إن مثل التجديد لهذه الأمة كمثل الثوب للإنسان، لا يصلح له ثوب الشتاء في الصيف ولا ثوب الصيف في الشتاء، ولا يصلحان إذا بليا وخلقا وكثرت رقوعهما، ولا يصلحان إذا تغير صاحبهما في العمر والحجم. فأصل الشريعة وثوابتها هي الإنسان ووسائل تحقيق الشريعة وإنفاذ ثوابتها هي الثياب.
وفي هذا الصدد لابد أن نميز بين التجديد وبين التقليد للآخر؛ إذ لكل إنسان (أمة) خصوصية وصفات تميزه عن غيره، فلا تناسب ثياب النحيل السمين والعكس؛ لذلك يجب أن تراعي خصوصية الأمة عند دراسة أحوال الأمم الأخرى، كما يجب أن ندرك أن الاطلاع عن أحوال الأمم والاستفادة منها، من مقومات التجديد ومن فروض الكفايات، " أفلم يسيروا في الأرض..".
ومن هذا المنطلق يصبح التجديد إكسير حياة الحضارات، وعملية التجديد تبدأ مما تحويه النفس الفردية للأشخاص والنفس الجماعية للأمة، والنفس إنما تحوي معتقدات وأفكار؛ وهما بدورهما يصنعان الإرادة، وهي بدورها تصنع السلوك، وهو بتكراره يصنع العادة، والعادة تصبغ الأمة بالشكل الحضاري المناسب. وذلك مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، ومن هنا فإن التغيير الإيجابي الذي يحفظ للأمة استمرار تقدمها الحضاري، أو التغيير السلبي الذي يحرف الأمة إلى الهبوط الحضاري، إنما يبدأ من ما في النفوس من أفكار ومعتقدات، وهذا التغيير هو من عمل النظام التربوي في الأمة بمفهومه الشامل الذي يتضمن جميع الوسائط التربوية.
تشبه أفكارنا وتوجهاتنا ومشاعرنا أوراق الشجر، حيث تسري عليها سنة الولادة ثم الموت فالبعث، وتموت فينا أفكار ومشاعر بعد أن تتم دورتها؛ لتبعث فينا أخرى من جديد في دورة جديدة لا تشبه سابقتها ولن تشبه التي تليها، والحال هنا هو المحافظة على سلامتها بضمان سريانها داخل إطار الوحي الشريف، وفي ظل العقل الواعي السليم بعيدا عن المغالطات والتحيزات؛ لأن سلامة الأفكار والمعتقدات من سلامة صاحبها.
وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن التربية هي المسؤولة عن مستوى تحضر أو تخلف أي أمة في أي ميدان من ميادينها، أو أي جانب من جوانب الحياة فيها، وقد أثبتت التجربة الإسلامية ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى معظم سنوات الدعوة يربي المسلمين الأوائل، وقد كان القرآن المكي كله يدور حول هذا الهدف، من بناء العقيدة والأخلاق، بقصص الأنبياء والرسل أو بغيرها.
وقد رأينا في التجارب الدولية الحديثة، كيف أن الدول الذي أحرزت نموا حضاريا قد كانت تعود إلى نظامها التربوي كلما واجهها تحد، كما فعلت بريطانيا أمام الألمان، وكما فعلت أمريكا أما التفوق السوفيتي عليها، وكذلك فعلت اليابان وكوريا.
وبإمكاننا أن نقول إن التربية هي معيار الظهور أو الذبول الحضاري لأي أمة، والوسائط التربوية هي المكان الأنسب الذي بإمكانه نجاح تجارب النهوض والتنمية، بحيث لا تجد غضاضة في القول بأن التربية هي التنمية بكل أبعادها. كما يمكننا القول بأن أنظمتنا التربوية هي الداء وهي الدواء، وأن التربية من أجل النهضة هي التي تصرف جل جهودها في بناء نموذج قوي في أصوله راسخ في ثوابته، وما تبقى من جهد تصرفه في الترميم والتحصين.
تربية، فكر، نهضة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة