مدونة فاطمة عيسى محمد


حب قرطبة/ من كتابي غراس الحب

الدكتورة : فاطمة عيسى محمد | Dr.fatma Essa Mohammad


06/01/2025 القراءات: 15  


كنت أتساءل كغيري! لماذا حافظ الأسبان على معالم التراث الإسلامي العمراني؟
لقد تركوها لإذلال المسلمين، وحولوها لكنائس، وها هم اليوم جعلوها أماكن للسياحة يتوافد إليها السياح من أقطار العالم، وتدر عليهم المال الكثير.
آه كم عاش ابن زيدون في قرطبة يعاني لوعات الحب، ويصوغ مشاعره في أبيات شعرية للعزل في العصر الأندلسي، لا زالت مدونة في كتب الأدب، يتدارسها طلاب العلم، وعشاق الأدب الأندلسي.
ومما قال:

تضحكُ في الحبّ، وأبكي أنَا،
أللهُ، فيمَا بيننَا، حاكمُ
أقُولُ لَمّا طارَ عَنّي الكَرَى
قَولَ مُعَنًّى، قَلْبُهُ هَائِمُ:
يا نَائِماً أيْقَظَني حُبُّهُ،
هبْ لي رُقاداً أيّها النّائِمُ!

نادى المرشد السياحي في لاقط الصوت مشيراً إلى تلة قريبة، قائلاً:
هذه أطلال القلعة الملكية التي بناها بنو نصر، وما زالت موجودة أطلالها على هذه التلة الكبيرة.
وأسهب في الحديث حول تلك الأطلال الخالدة، وأنا أرقب على مد البصر أشجار الزيتون، بين قرطبة وغرناطة أشجار الزيتون التي تعد بالملايين.
توقفت الحافلة على الطريق بجانب إحدى الاستراحات، نزل البعض لقضاء حاجته والوضوء للصلاة، وذهب قسم آخر منهم لمقهى صغير يقدم الشاي والقهوة لمرتادي الطريق، بالإضافة إلى دكان صغير يحوي بعض التحف التي رصت بجانب بعضها، وقد صنعت من الفخار على شكل خنازير مختلفة الحجم، وتلك الاستراحة أشبه ما تكون باستراحة الشاحنات.
طلبنا من العامل بعضاً من القهوة المضاف إليها الحليب بالسكر، كانت لذيذة بالرغم من قذارة المكان، جلسنا خارج الاستراحة لاحتساء قهوتنا، ثم ذهبنا إلى مكان صغير قرب المزارع لبيع زيت الزيتون الإسباني المستخرج من مزارع الزيتون المحيطة بالمكان، فابتاع بعضنا من ذلك الزيت.
أخذ كل منا حاجته ثم تابعنا المسير في الحافلة، وجلسنا نمتع ناظرنا ببديع المناظر على جانبي الطريق، فالطريق خلت إلا من بعض المزارعين، وبعض الاستراحات، أما ما عدا ذلك فهي أراضٍ خضراء قد تفتحت زهور الربيع على أطرافها وأشجار الزيتون قد رصت على السهول الخضراء في تناسق عجيب في لوحة تشد أنظار القادمين إلى قرطبة براً.
في منتصف القرن الثامن الميلادي دخل عبد الرحمن الداخل قرطبة وأسس فيها الدولة الأموية في الأندلس، واستطاع بما يملك من بصيرة ودهاء أن يوحد بلاد الأندلس، ويجعل قرطبة عاصمة لها.
كانت قرطبة مركز القوة العسكرية والثقافية، انتشرت فيها المكتبات الأموية التي أصبحت تعج بآلاف الكتب، كما انتشرت دور العلم، وكان الأوربيون يتسابقون لضم أبنائهم إلى الجامعات الأندلسية للدراسة باللغة العربية، كما نتسابق نحن العرب اليوم لانضمام أبنائنا إلى الجامعات الأوربية للدراسة باللغة الأجنبية!!
كان في قرطبة أكثر من 600 مسجد، انتشرت فيها حلق العلم، أشهرها وأكبرها مسجد قرطبة
الذي نحن بصدد زيارته.

وصلنا على مشارف القنطرة التي ما زالت شاهدة على مكانة قرطبة، وسط الوادي الكبير، وتعد أول قنطرة تبنى على نهر، وأعظم قنطرة بنيت من الحجارة في تاريخ الحضارة الإسلامية، بناها عبد الرحمن الداخل، وفي عام 939م أعاد المنصور بن أبي عامر بناءها.

قال عنها ابن الوردي، في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب):
"بمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسنًا وإتقانًا، وعدد قسيها 17 قوسًا، كل قوس منها 50 شبرًا وبين كل قوسَين 50 شبرًا، ومحاسن هذه المدينة أعظم من أن يحيط بها وصف".

وعلى مشارف القنطرة، يقبع المسجد الكبير أو جامع الحضرة، جامع قرطبة كأسد هصور خارت قواه، عبرنا القنطرة إلى مدخل الجامع، وقفنا تحت ظلال أشجار النارنج، رائحتها الزكية تفوح لتعطر أنوفنا، وتذكرنا بالماضي التليد.

قال الحجازي في وصف وادي قرطبة:
"مكتنفًا بديباج المروج مطرزًا بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار، وتنعر النواعير ويبسم النوّار، وقرطاها الزاهرة والزهراء، حاضرتا الملك وأفقا النعماء والسرّاء."

يعد جامع قرطبة تحفة معمارية فريدة، بُني بجانب الكنيسة، وبني على جزء من الكنيسة بعد شراء المسلمين للأرض لتوسعة الجامع، وحصنت قرطبة بحصون منيعة في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر وجعلها عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس، كما بَنى بقرب الجامع قصر قرطبة ليكون مقراً للخلافة.
وقد قال ابن زيدون مادحاً لمدينة الزهراء التي بناها المنصور ابن أبي عامر، والتي كانت تعد لبنة قرطبة الأساسية، قال وهو يذكر حبيبته على مشارف الزهراء:

إني ذكرتُك بالزهراء مشتاقًا … والأفق طلْقٌ ووجه الأرض قد راقا
وللـنسيمِ اعتلالٌ في أصائله … كأنّما رقَّ لي فاعتلّ إشــــــــــــفاقا
والروض عن مائه الفضّيّ مبتسم … كما حللت عن اللّبّات أطواقــا
يومٌ كأيّام لذّات لنا انصرمت … بتنا لها حين نام الدّهر ســـــــرّاقا

لكن الحسرة أدمت قلوبنا ونحن ندخل الجامع الكبير مع حشود السياح، أحسست كأني في المسجد الحرام في مكة من حيث الزخارف الإسلامية، والنقوش العربية، والقبب الكبيرة ذات الأقواس المتعددة، وتلك الأعمدة الرخامية الطويلة التي تحمل الأقواس واتساع رقعة المكان، لكن في عام 1236 م عندما استولى ملك قشتالة على قرطبة قام بتنصير المكان وتشويه تلك الزخارف بوضع تماثيل وصلبان داخل المسجد.
لا أخفيكم المنظر أدمى قلبي، فأماكن حلقات العلم والعلماء تحولت لأماكن للتنصير، شعرت بالغثيان، بل أكاد أختنق خرجت مسرعة لاستنشق الهواء، تحت ظل الأشجار، بكيت
كما بكى أهلنا في الأندلس حسرة على ضياع هذا الإرث الإســـلامي، دعوت الله أن يعود المســجد لحلقات العلم مع الفقهاء، والعلماء كما كان، وســــيعود


قرطبة، الأندلس، القنطرة،التراث الإسلامي،ابن زيدون


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع