مدونة ياسر الدالي


مما يأبى النسيان (قصة قصيرة).

ياسر الدالي | Yasser Addali


04/04/2024 القراءات: 770  


ممَّا يأبى النسيان..
🖊️. ياسر الدالي. 
 
استيقظتُ حوالي العاشرة صباحًا، حمدتُ الله على ذلك، باشرتُ استعدادي بسعادة ٍكالعادة، خرجتُ من المنزل، وبينما كنتُ أشقّ طريقي إلى المسجد بلهفٍ وشوقٍ لأداء صلاة الجمعة في رمضان (1443) أجبرتني ذاكرتي في العودة إلى الوراء من نقطة البداية ليوم آخر مماثل منذ سنواتٍ خلت، حين انتفضتُ من نومٍ عميقٍ كمن يتحرّر من براثن وحشٍ كاسرٍ رأى بصيصَ أمله الوحيد في النجاة ماثلًا بين يديه، سمعتُ أصواتًا لم أعِ فحواها، رفضَ إدراكي إدراكها، حينها توقّف الزمن للحظات، حاولت مراتٍ ومراتٍ استيعاب كُنهَ تلك الأصوات، لكن ذاكرتي تعثّرت في الاستجابة لما أريد، ما من حيلةٍ لفهم ما أود، فقد اختلط عليَّ الليل بالنهار، ووجدتُ نفسي في دوّامة تتزاحم فيها التساؤلات في رأسي، جذبتُ الأصوات نحوي بشدة، فامتثلت أمامي شاخصة فيَّ، تتردَّدُ في أعماق أعماقي، تخرق أذني، تسلبني المقدرة على الإدراك، دخلتُ في عراكٍ معها، ساءلتها : بالله ما أنتِ؟ رفضت الإفصاح لي عن مكنونها، لجأتُ إلى زوجتي النائمة بجواري طالبًا منها نجدتي، وفور انتباهها باشرتها بالسؤال العويص الذي أرهقني: هل تسمعين ما أسمع؟ انتبَهَت لتلك الأصوات، كان جوابها قطعيًا لا يحتمل التأويل لكنه نزل عليَّ كالصاعقة: هذا صوت خطباء المساجد واليوم هو يوم الجمعة. عادت إليّ ذاكرتي التي فارقتني لبرهة، واستعدتُ ذلك الوعي الذي لُمته في الحقيقة على التأخُّر، تملّكني غيظٌ وشعورٌ لا أحسدُ عليه.. إنها الجمعة الأخيرة من رمضان، أخذتُ أكلِّم تلك الساكنة بين ضلوعي، ألومها، أعنِّفها، لِمَ فعلتِ هذا بي؟ الأجدى بكِ أن تنتبهي لهكذا أمر.. واصلت تأنيبها، لم تهدأ ثائرتي حتى وأنا أسابق الزمن في الاستعداد للخروج.. مرّت تلك الدقائق وكأنها سنون طويلة تعبر من ثقب إبرةٍ صغيرة، وصلت إلى بوابة المنزل بالكاد، أنظر يمنةً ويسرة، لا أحد في الشارع وكأنّ حظرًا للتجوال قد فُرضَ للتوّ، شرعتُ في خطواتي الأولى باتجاه مسجد الحي الذي يأتيني منه صوت الخطيب مجلجلًا، لا أدري ما الذي أصاب قدماي، كلما هممتُ بخطوةٍ كبيرةٍ تطوي الطريق أشعر بقوةٍ تجذبها للخلف فتأتي تلك الخطوة ثقيلةً بطيئة، استسلمت لها، فما من حيلةٍ لي إلا مجاراتها.. تابعت السير، يسبقني الشوق أمامي، يحمل تلك المهجة التائهة، والتوَّاقة لمعانقة ذلك الرحاب الطاهر، والنفحات الربانيّة الزكية المغادِرة لعالمنا بعد ساعات قليلة، إلى حيث منتهاها المكتوب، والتي لن تزورنا إلا في العام القابل، ومن يدري فلربما تأتي تلك النفحات فلن تجد لي أثرًا على ظهر هذه البسيطة. بعد مجاهدةٍ مضنيةٍ مع تلك الأقدام البالية طويتُ تلك المسافة القليلة خطواتها، البعيدة على من أخّرته عزيمته وهمته في شهود جمعةٍ لها مكانتها الروحية الساكنة في قلب كل مؤمن، والزمنية كونها الأخيرة في شهر هو من أعظم شهور الله مكانة على الإطلاق. وصلت باب المسجد، لم أبالِ بذلك الصوت المنبعث من أعماقي، والذي يهمس فيّ (لقد تأخرت هذه المرة، والكل ينظر إليك، ما كان ينبغي لمثلك أن يأتي متأخرًا)، غالبته ودلفتُ إلى الداخل، لقد كان المسجد ممتلئًا يغصُّ بالسبّاقين من أصحاب الهمم العالية، بدأ الإمام يلهج إلى الله بالدعاء معلنًا انتهاء الخطبة الثانية، وجدت نفسي وبتلقائيةٍ وعفويةٍ أرفع يديّ وأؤمّن وأنا أصعد سلّم الدور الثاني حتى وقفت في الصف الأخير، كانت تلك الأدعية المباركة كل ما أدركته من خطبتي الجمعة.


منا يأبى النسيان


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع