وقفة جمالية في قصيدة الزهراء
د.أمل محمد الأسدي | Amal Muhammed H.JASSIM
04/01/2024 القراءات: 674
وقفة جمالية في قصيدةالزهراء(ع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.أمل الأسدي
كتبتُ ومحوتُ.. كتبتُ ومحوتُ، ماذا أكتب عن السيدة الملكوتية؟ ماذا أكتب عن ابنة البيت المحمدي؟
سأقف عند بابها، وأحاول أن أُقبّل أعتاب حروفه، علها ترضی وتمنح الملهوفة نظرة، وتمنح المفتاح والكلمات قدرة...
قيل: "ما لايُدرَك كله، لايُترَك جُله" وبناءً علی هذا القول سنقف وقفةً جمالية عند بيتين من قصيدةٍ فريدةٍ بحق السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) للشاعر المصري البيومي محمد عوض، وذلك لأن قصيدته التي تحمل عنوان" الزهراء" تربو علی المئة بيت، ولأن قصيدته مليئة بالصور الشعرية، وزاخرة بالخصائص الأسلوبية وعلی المستويات كافة(الصوتية والتركيبية والدلالية) إذ نظمها شاعرها القادم من غيطان طنطا وخضرتها، وحضرتها ومددها لتكون تحفةً فنيةً جميلة تليق باسم السيدة الزهراء(عليها السلام)، فتعالوا معنا لنقف عند المحطات الجمالية التي تتحدث عن الصفات الإنسانية التي تحملها الزهراء والتي أبدع الشاعر في تصويرها ومن ذلك:(١)
هِيَ لَا تُرَى بِالْعَيْنِ! بَلْ بِعَطَائِهَا * فَإِذَا رَأَيْتَ فَقَدْ رَأَيْتَ عَطَاءَ
يتحدث الشاعر في هذا البيت عن العطاء والبذل، الذي يستلزم وجود ثلاثة أطراف وهي: المُعطي، المُعطَی إليه، المعطی( المادة المقدَّمة)، فيكرر الفعل "رأی".ثلاث مرات، فالرؤية مقترنة بعملية العطاء وهذا هو الذي يتبادر في الأذهان، لكن الأمر مع الزهراء مختلفٌ، فاستعمل الشاعر أولا الفعل المبني للمجهول(تُری) قائلا: "هي لاتُری بالعين" وهو بذلك يريد الإشارة إلی أنها بعيدة عن عيون الناس، فهي سيدة البيت المحمدي العلوي، وهي ابنة الرسالة ،هي السيدة التي تزور بيتها ملائكة السماء؛ لذا لم تكن رؤيتها مباحة!
ومن جهة أخری؛ استعمال الفعل المنفي(لا تُری) يشير إلی السلوك القرآني في الإنفاق والعطاء، الذي يحث علی حفظ كرامة السائل، وحفظ ماء وجهه، ولاسيما وأن صورة السيدة الزهراء قد ارتبطت بسورة "الإنسان".التي خلدت فعل بيت الزهراء الإنساني السامي وذلك في قوله تعالی: (( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (۞ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ))(٢)
فهي تعطي بلا مقابل، وهي سيدة الرسالة، وهي أم أبيها، لذا سلوكها قرآني رحماني، ذلك السلوك التربوي الذي نظّم عميلة الإنفاق والعطاء في سبيل حفظ كرامة الإنسان، إذ قال تعالی: ((إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ))(٣)
فعدم رؤية الزهراء من قبل الآخرين(الناس عامة أو السائل) يتناسب مع إخفاء التصدق والابتعاد عن الظهور.
أما تكرار الفعل" رأيت" فهو يدل علی أمرين أيضا، الأول: حتمية العطاء وتحققه من السيدة الزهراء، سواء كان العطاء ماديا أم معنويا لذا قال:" فقد رأيت عطاء"
فالاستزادة والعطاء متحقق حاصل، والأمر الآخر: هو عدم ظهورها للعيان إبان العطاء، ويدعم هذا المعنی اسلوب الشرط الذي استعمله الشاعر ليثبت به أن مايُری من السيدة الزهراء هو العطاء وحسب:
"فإذا رأيتَ فقد رأيت عطاء"
وقد يضم المعنی توجيها آخر وهو: ان العطاء الذي يراه الرائي لايكون ولايتحقق إلا برضاها وكرمها، وهو منوط بها وليس متعلقا بمكانة الرائي أو كفاءته، أو قدرته علی استيعاب هذه الأنوار السماوية، وقد قال تعالی:((وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))(٤)
أما البيت الآخر الذي سنقف عنده فهو:(٥)
هِيَ زَمْزَمُ الإِيمَانِ، ضِحْكَةُ كَعْبَةِ الإِحْسَانِ، أَجْنِحَةٌ تَسِيلُ سَنَاءَ
جعل الشاعر السيدة الزهراء المرتكز في هذا البيت فقال:(هي) وأخذ يؤثث الصور الشعرية التي تليق بهذه الوحدة وهذا المركز فوصفها بـ زمزم الإيمان
وقد أبدع في هذه الصورة ، فذكره لـ( زمزم) و(الإيمان)
يفتح الباب لدلالات عديدة ومدهشة منها: إن السيدة الزهراء هي امتداد الحنفية السمحاء، فـ زمزم هو النبع الإلهي الصافي وهو معادل موضوعي للكوثر الإلهي((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ))(٦) أي أنه كلما شرب الإنسان من نبع القيم الفاطمية وتشرّب بمحبتها؛ ركز في الإيمان وثبتت أقدامه فيه.
وكذلك استعمال "زمزم" فيه دلالة على الماء والارتواء ، فالماءهو مصدر الحياة ومن دونه لا بقاء للوجود الإنساني، وحب السيدة الزهراء هو ماء الوجود، وماء الإيمان أيضا.
ويسترسل الشاعر ليمدنا باستعارة رائعة وهي وصفه للسيدة الزهراء بأنها ضحكة كعبة الإحسان " ونلاحظ قدرته التصويرية الفنية إذ جعل للإحسان كعبةً ، ومفردة كعبة لها ما لها من دلالات كالمركزية والمقصدية والمصدر العبادي والبقاء والامتداد والقدسية والشرف والحضور الدائم وغيرها من الدلالات، ثم جعلها ضحكة هذه الكعبة ، فهي الوجه الضاحك المستبشر الذي يعطي وينفق وهو راض مرضي ، فهي ابنة الهواشم السخية الندية، وهم مركز الإحسان وكعبته منذ القدم، فكما هي زمزم إسماعيل كذلك هي كعبة عطاء الهواشم، وكما الإحسان الملتزم بالضوابط الإلهية كالابتعاد عن المنّ والأذی، يكون إيجابيا، ويدخل السرور إلی النفس، فإن السيدة الزهراء هي كل ذلك، كل ما عكسته(ضحكة كعبة الإحسان) فهي مصدر الخير الوفير بلا مِنّة ولا أذی.
ثم ينتقل الشاعر إلی صورةٍ شعرية أخری ويقول" أجنحة تسيل سناء" إذ شبهها بالأجنحة، وأي أجنحة؟!
الأجنحة التي تسيل سناءً، ولعله أراد بذكر الأجنحة أن يشير الی بيتها الذي اعتادت الملائكة زيارته، أي أنه قصد أجنحة الملائكة الهابطة والمرتفعة، التي تترك نورها أثرا مباركا، أو لعله قصد أن روحها السامية، العلوية، المُحلِّقة في عوالم الملكوت، هي كأجنحة الطيور البيضاء التي إذا ما حلقت، يتصور الرائي أن الضوء الساطع يسيل من أطرافها.
الزهراء، قصيدة، البيومي، طنطا، كعبة الإحسام. زمزم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع