مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
كيف تبنى الأوطان؟ – سادساً: الاقتصاد المغلق -
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
17/02/2025 القراءات: 10
كيف تبنى الأوطان؟ – الاقتصاد المغلق -
لا زلنا نتحدث عن سلسلة ومقومات بناء الأوطان، وحديثنا اليوم عن تحقيق الاكتفاء الذاتي أو الاقتصاد المغلق: ويقصد به أن يعتمد بلد ما على إمكانياته الخاصة، للحصول على احتياجاته من السلع الاستهلاكية والاستثمارية، بهدف التقليل من مستوى التبعية السياسية والاقتصادية للدول الأخرى، وبالتالي تحقيق درجة أعلى من الاستقلالية في قراراته ومواقفه الدولية والداخلية.
لا يعني بأي حال من الأحوال وقف أو قطع التبادل التجاري مع الدول الأخرى، وإنما إعداد وتأمين شروط وظروف داخلية لتحقيق أرباح أعلى للتبادل الاقتصادي مع الدول الأخرى، ورغبة في تنمية الإنتاج المحلي كمياً ونوعياً.
وأما نشأة المصطلح ِفيرجع البعض أصل نشأته إلى الفيلسوف أرسطو في كتابه "السياسة"، إذ يعرف دولة المدينة الفاضلة بصفتها حشد من المواطنين في مكان صالح لحياة الاكتفاء الذاتي،
وهو إحدى السياسات الاقتصادية التي بمقتضاها تحاول أية دولة أن تستغني ما بوسعها عن الواردات من الدول الأخرى، وذلك باعتمادها على منتجاتها المحلية، حتى ولو كانت أسعارها المحلية في بداية الأمر أكثر ارتفاعًا من أسعار نظائرها من السلع المستوردة.
ومفهوم الاكتفاء الذاتي موجود مع البشرية منذ هبط سيدنا آدم عليه السلام إلى الأرض، لأنه حاجة بشرية من تحقيق الكفاية في المطعم والمشرب والمسكن وغير ذلك من عناصر الكفاية مما هو متاح حوله من الخيرات والإمكانيات، قال الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ} [طه:118-119]
ولما ازدهرت الصناعة لا سيما صناعة الحديد واللباس العسكري، والتعدين مع سيدنا داود عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80]، وقال سبحانه وتعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ) [رواه البخاري].
ويمثل سيدنا يوسف عليه السلام النموذج الأجلى في تحقيق الاكتفاء الذاتي بحسن تصرفه أمام الدورات الاقتصادية باغتنام الموارد الموجودة بما يحقق الكفاية ولو بحدها الأدنى وقت الرخاء، واغتنام بقيتها وقت الشدة التي استمرت سبع سنين، فوجه للزراعة زيادة الإنتاج وتحقيق الكفاية إلى أقصى غاية مما أنتجته الأرض والموارد المحلية، وهذا استدعى توزيعاً عادلاً، وصناعات تحويلية عن المحصول الزراعي لسد مختلف الحاجات، قال الله تعالؤ: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47].
وهذا سيدنا شعيب يحذر من التطفيف في الكيل والميزان، وهذا يدل على سعة علمهم وعملهم بالتجارة، قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].
وهكذا اعتنى الأنبياء عليهم السلام في مراحلهم بتحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال الزراعة والصناعة وغير ذلك من الوسائل.
وهكذا يساهم الاكتفاء الذاتي في تحقيق الأمن الشامل، كما يساهم في تأمين مستوى معيشي لائق لحياة الأفراد والأمم، ويساهم في استقلالية الأمة والقيام بدورها في عمارة الأرض، لما له من دور فعال في زيادة قوة الأمة الاقتصادي.
وقد تناول القرآن كثيراً من الظواهر التي تؤثر سلباً على العملية الاقتصادية، ويعرقل الاكتفاء الذاتي، ومن أبرز هذه الظواهر الاكتناز والربا، قال الله تعالى عن الاكتناز: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35].
أما الربا فقد جاء تحريمه صريحاً في أكثر من آية، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [القرة:275].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها) [رواه البخاري في الأدب المفرد]، وفي هذا بيان لأهمية العمل، ولضرورة الزراعة والاعتناء بالثروة النباتية كوسيلة مهمة ورئيسية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ومن الآيات الدالة على الاكتفاء الذاتي قوله تعالى: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] كل أنواع القوة المتعددة اقتصاديًّا، وعلميًّا، وعسكريًّا، ومعنويًّا، قوة الوطن في استغنائه عن عدوه.
ورحم الله الشيخ محمد متولي الشعراوي حين يقول: "لن تكون كلمتنا من رأسنا إلا إذا كانت لقمتنا من فَأسِنا"،
وباستقراء السيرة النبوية نجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بالتعاون مع الصحابة الكرام وتوجيههم حقَّقوا الكفاية لسكان المدينة وكانوا حريصين على أقوات الناس، والدليل على ذلك أنَّه لما حاصر الأحزاب المدينة أراد النبي أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عنه وعن أصحابه،
تبنى الأوطان، الاقتصاد المغلق، الاكتفاء الذاتي، تحقيق أرباح، التبادل التجاري
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة