رؤوس أقلام (منوعات في العلم والأدب) (254)
د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees
04/01/2025 القراءات: 19
-اللهم سلِّمْ سلِّمْ:
كانت هذه الدعوة تتردد على ألسنة السلف الصالح:
قال يحيى بنُ سعيد الأنصاري : كان سعيد بن المسيب يكثر أن يقول في مجلسه: اللهم سلِّمْ سلِّمْ .
وقال حماد بن زيد: كان يحيى بن سعيد الأنصاري يقول في مجلسه: اللهم سلِّمْ سلِّمْ .
وقال أحمد بن يونس: سمعتُ الثوري ما لا أحصيه، يقول: اللهم سلِّمْ سلِّمْ، اللهم سلِّمْنا، وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة .
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: سمعتُ أبي كثيرًا يتلو سورة الكهف، وكثيرًا ما كنتُ أسمعُه يقولُ: اللهم سلِّمْ سلِّمْ" .
وهذه دعوة الملائكة: فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يمر الناس على جسر جهنم، وعليه خطاطيف وحسك وكلاليب تخطف الناس، وبجنبتيه ملائكة يقولون: اللهم سلِّمْ سلِّمْ. فمن الناس من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الفرس المجرى، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم من يزحف زحفًا، فأما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون، ولا يحيون، وأمّا أناس يؤخذون بذنوب وخطايا، فيحترقون، ثم يؤذن في الشفاعة …
***
-أحوال الخلق كلهم، بالنسبة إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:
هذا مثل جامع رائع من فوائد العلامة ابن رجب الحنبلي البغدادي الدمشقي المهمة، قاله في كتابه النافع «شرح حديث أبي الدرداء» (2/ 66-69) (ضمن مجموع الرسائل ط دار اللباب)، (ص44). قال رحمه الله:
«ولنضربْ هاهنا مثلًا جامعًا لأحوال الخلق كلهم، بالنسبة إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقسامهم في إجابة دعوته إلى: سابق، ومقتصد، وظالم لنفسه، وبه يظهر فضلُ العلماء الربانيين على غيرهم من الناس أجمعين، فنقولُ:
مثَلُ ذلك كمثل رسولٍ قدم من بلد الملك الأعظم، فأدى رسالة الملك إلى سائر البلدان، وظهر لهم صدقُه في رسالته، فكان مضمونُ رسالته التي أداها من عند الملك الأعظم إلى رعيته:
أن هذا الملك لا إحسان أتمُّ من إحسانه، ولا عدل أكملُ من عدله، ولا بطش أشدُّ من بطشه، وأنه لابد أن يستدعي الرعيةَ كلهم إِلَيْهِ ليقيموا عنده، فمَن قدم عليه بإحسان جزاه بإحسانه أفضل الجزاء، ومن قدم عليه بإساءة جازاه بإساءته أشد الجزاء، وأنه يحب كذا وكذا، ويكره كذا وكذا، ولم يدع شيئًا مما تعمله الرعية إلا أخبرهم بما يحبه الملك منه وبما يكرهه، وأمرهم بالتجهز والسير إلى دار الملك التي فيها الإقامة وأخبرهم بخراب جميع البلدان سوى ذلك البلد، وأن مَن لم يتجهز للسير بعث إِلَيْه الملك من يزعجه عن وطنه، وينقله منه على أسوأ حال، وجعل يصف صفات هذا الملك الحسنى من الجمال والكمال، والجلال والإفضال.
فانقسم الناسُ في إجابة هذا الرسول الداعي إلى الملك أقسامًا عديدة:
فمنهم مَن صدقه، ولم يكن له هم إلا السؤال عما يحب هذا الملك من الرعية استصحابه إلى داره عند السير إِلَيْهِ.
فانشغل بتحصيله لنفسه، وبدعاء من يمكنه دعاؤه من الخلق إلى ذلك، وعما يكرهه هذا الملك، فاجتنبه وأمر الناس باجتنابه، وجعل همه الأعظم السؤال عن صفات الملك وعظمته وإفضاله، فزاد بذلك محبتُه لهذا الملك وإجلاله، والشوق إلى لقائه، فارتحل إلى الملك مستصحبًا لأنفس ما يقدر عليه مما يحبه الملك ويرتضيه، واستصحب معه ركبًا عظيمًا على مثل حاله، سار بهم إلى دار الملك.
وقد عرف من جهة ذلك الدليل -الذي هو الرسول الصادق- أقرب الطرق التي يتوصل بالسير فيها إلى الملك، وما ينفع من التزود للسير فيها، وعَمِلَ بمقتضى ذلك في السير هو ومَن اتبعه.
فهذه صفةُ العلماء الربانيين الذين اهتدوا وهدوا الخلق معهم إلى طريق الله، وهؤلاء يقدمون على الملك قدوم الغائب على أهله، المنتظرين لقدومه، المشتاقين إِلَيْه أشد الشوق.
وقسمٌ آخرون اشتغلوا بالتأهب لمسيرهم بأنفسهم إلى الملك ولم يتفرغوا لاستصحاب غيرهم معهم.
وهذه صفة العبّاد الذين تعلموا ما ينفعهم في خاصة أنفسهم، واشتغلوا بالعمل بمقتضاه.
وقسمٌ آخرون تشبهوا بأحد القِسمين، وأظهروا للناس أنّهم منهم، وأنَّ قصدهم التزود للرحيل، وإنما كان قصدهم استيطان دارهم الفانية.
وهم العلماء والعبّاد المراءون بأعمالهم؛ لينالوا بذلك مصالحَ دارهم التي هم بها مستوطنون، وحالُ هؤلاء عند الملك الأعظم إذا قدموا عليه شرُّ حال، ويقال لهم: اطلبوا جزاء أعمالكم ممن عملتم لهم، فليس لكم عندنا من خلاق، وهم أول من تسعر بهم النار من أهل التوحيد.
وقسمٌ آخرون فهموا ما أراده الرسول من رسالة الملك، لكنهم غلب عليهم الكسل والتقاعد عن التزود للسفر، واستصحاب ما يحب الملك، واجتناب ما يكرهه.
وهؤلاء العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، وهم على شفا هلكة، وربما انتفع غيرهم بمعرفتهم ووصفهم لطريق السير، فسار المتعلمون فنجوا، وانقطع من تعلموا منه في الطريق فهلكوا.
وقسم آخرون صدّقوا الرسول فيما دعا إِلَيْه من دعوة الملك، لكنهم لم يتعلموا منه طريق السير، ولا معرفة تفاصيل ما يحبه الملك وما يكرهه، فساروا بأنفسهم، ورموا نفوسهم في طرق شاقة، ومفاوز وقفار وعرة، فهلك أكثرُهم، وانقطعوا في الطريق، ولم يصلوا إلى دار الملك.
وهؤلاء هم الذين يعملون بغير علم.
وقسمٌ لم يهتموا بهذه الرسالة، ولا رفعوا بها رأسًا، واشتغلوا بمصالح إقامتهم في أوطانهم التي أخبر الرسولُ بخرابها.
وهؤلاء:
منهم مَن كذب الرسول بالكلية.
ومنهم مَن صدقه بالقول ولكنه لم يشتغل بمعرفة ما دل عليه ولا بالعمل به، وهؤلاء عموم الخلق المُعْرِضُون عن العِلْم والعمل.
ومنهم الكفار والمنافقون.
ومنهم العصاة الظالمون لأنفسهم.
فلم يشعروا إلا وقد طرقهم داعي الملك، فأخرَجهم عن أوطانهم، واستدعاهم إلى الملك، فقدموا عليه قدومَ الآبق على سيدهِ الغضبان.
فإذا تأملتَ أقسام الناس المذكورة لم تجدْ أشرف ولا أقرب عند الملك من العلماء الربانيّين، فهم أفضلُ الخلق بعد المرسلين».
***
منوعات
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة