الكتابة في درجة الصفر / الجزء الثالث
أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi
03/12/2022 القراءات: 2924
على الرغم من كون اللغة والأسلوب عنصرين مختلفين من حيث الإيجاد والتكوين والظهور ، لكنهما حسب اعتقاد (بارت) إن هذين العنصرين داخلين في تكوين إطار شكلي آخر ، وهذا الإطار الشكلي هو الكتابة ، ويعدهما " قوتان عمياوان ، والكتابة فعل للتضامن التاريخي . اللغة والأسلوب شيئان ، والكتابة وظيفة : إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع ، إنها اللغة الأدبية وقد حولها المقصد الأجتماعي ، وهي أيضاً الشكل المقبوض عليه في نيته الإنسانية والموصول نتيجة لذلك بأزمات التاريخ الكبرى "(بارت : ص36) .
إذن ، فالكتابة في تصور (بارت) ، وهو تصور ليس كلي عن الكتابة بشكلها العمومي ، بل في مجال معين وهي الكتابة الأدبية في منظورها المراد بحثه من خلال المجال الإبداعي وعلاقته بالتاريخ والمجتمع ، عن طريق المقاصد الاجتماعية والإنسانية والتاريخ في أزماته وتشكلاته القائمة في التدوين والإنتاج للأفكار والمعرفة . ويسوق في ذلك المجال الإبداعي أمثله في المقصديات الأجتماعية الموحدة على الرغم من اختلاف اللغة والأسلوب والفترة الزمنية الفاصلة بين كتّاب مثل ( ميريمي وفينيلون ) والأول كاتب فرنسي وروائي وقاص عاش في القرن التاسع عشر ، والثاني كاتب فرنسي عاش في القرن السابع عشر ، ويعطي مثال آخر عن كتّاب عاشوا المدة الزمنية نفسها لكنهم قد اختلفوا في الكثير من الأشياء ومنها : النبرة ، والغاية والأخلاق ، وطبيعة الكلام في المجال الإبداعي على الرغم من انتمائهم للغة والمدة الزمنية نفسها ، من أمثال هؤلاء الكتّاب (جيد وكينو ) و( كلوديل وكامو) و( ميريمي ولوتريامان) وغيرهم ، أي أن كتاباتهم متعارضة وليست متفقة في مجال الفعل الإبداعي في الكتابة .(ينظر :بارت : ص36، ص37) .
وفي هذا السياق يرى (بارت) أن الكتابة حتى وأن كانت متعارضة في الفترات نفسها ومتطابقة في المقاصد الأجتماعية في الفترات المختلفة إلا أنها تأتي على وفق غاية معينة يراها (بارت) هي ما يجب أن تكون عليه الكتابة ، ويجعل الوعي أساس لها وليس لفعالية ما ، أو لأجل استهلاك ما ، فالكتابة يجب أن لا تخضع في صيرورتها لجزئيات قد تنتهي بانتهاء ما يراد منها كونها عابرة وليست مستقرة في فعل إبداعي ، وهذا التصور على ما أعتقد هو ما يميز فترتنا الحالية في زمن العولمة ووسائل التواصل التي جعلت من الزخم الكبير للكتابة يعتقد أنها إبداعية ، وما يسيئ لها طبيعة الجمهور الذي يؤيدها ويعطيها الدعم المعنوي، على الرغم من أن هذا الجمهور متنوع بين الواعي واللا واعي بما يفعله ، وكأن (بارت) يشير في هذا الموضوع إلى الكتابة من خلال توجيه صريح لطبيعتها وغايتها ، فيرى إن على الكاتب أن تكون " كتابته هي طريقة للتفكير في الأدب وليست طريقة لنشره ، أو بتعبير أفضل : لما كان الكاتب لا يستطيع تغيير شيء في المعطيات الموضوعية للاستهلاك الأدبي (...) فإنه ينقل إرادياً ضرورة لغة حرة إلى مصادر هذه اللغة وليس إلى مآل استهلاكها " (بارت : ص38) . كما يركز (بارت) في مسألة أخرى ليس في الغاية التي من أجلها تكون الكتابة ، بل يركز على مسألة الالتباس بين الغائية الأجتماعية والمنابع الأداتية في كون أن الكتابة تستغل بطريقة تجعل من هذا الالتباس أمراً واقعاً في الاشتغال وفي تقديم تصورات عن الكتابة ذاتها والسياقات في طريقة إنتاج الكتابة الإبداعية .
إنَّ الاختيار الحر للكاتب لطريقة إبداعاته في شكل الكتابة تجعل من اللحظة الإبداعية ذاتها تشكل منعرجاً تاريخياً في تشكيل الوعي لدى الكاتب، وهذا الوعي بحقيقة الكتابة لا يخرج من ضغوطات بسبب التاريخ الأدبي للكتابة واللغة والتقاليد ، لذا فإن " الكتابات الممكنة بالنسبة لكاتب معين ، تتم تحت ضغط التاريخ والتقاليد : فهناك تاريخ الكتابة لكنه تاريخ مزدوج : ففي اللحظة ذاتها التي يقترح فيها التاريخ العام -أو يفرض- إشكالية جديدة للغة الأدبية ، تظل الكتابة ممتلئة بذكرى استعمالاتها السابقة لأن اللغة لا تكون قط بريئة : فالكلمات لها ذاكرة ثانية تمتد بغموض وسط دلالات جديدة " (بارت : ص38) ، هذا ما يجعل الكاتب والكتابة أمام تحديد المسارات المختلفة عن طريق مفهوم الحرية التي يراه (بارت) مرتكزًا أساس في عملية الاختيار بين ما يريده الكاتب في تحديد اشتغاله الإبداعي . ويكون فيه مفهوم الحرية على أسس واعية بالكتابة ، وبين تصورات طارئة تنتهي مع إنتهاء أسبابها ، ومن ثم أنه يكتب على وفق حرية أختيار قائم على الإبداع ذاته وهو ما يدعو إليه (بارت) في ملامسة اللحظة ذاتها القائمة على اعتبار أن الكتابة لديه مجالاً من الحرية في الاختيار تؤرشف لفعل قائم على سلسلة من السياقات الإبداعية التي أنتجت التاريخ الأدبي على وفق التمظهرات الواعية التي غيرت من طبيعة الوعي والعملية العقلية في تشخيص ما هو طارئ وبين ما هو خالص لصالح الكتابة الأدبية في ذاتها بوصف هذا الفعل الإبداعي هو نتاج جمالي في سياقاته التاريخية التي تعبر عن حقيقة الكتابة حسب تصورات (رولان بارت ) .
المصدر
1. رولان بارت : درجة الصفر للكتابة ، ترجمة وتقديم : محمد برادة ، بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، الرباط : الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، 1981.
الكتابة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة