قيمة المكان في النص الروائي
د. يوسف دفع الله حسين محمد | Yousif dafa alla husin mohmmed
21/08/2021 القراءات: 3807
ظل المكان بوصفه أحد العناصر السردية في العمل الروائي يواجه عدداً من الإشكاليات في الدراسات النقدية تتعلق بمفهومه، ووفقا لهذه الإشكاليات تعددت مسمياته، فأحيانا يطلق عليه (الحيز المكاني)، وأحيانا (المكان)، وآخرون أطلقوا عليه (الفضاء)، وعلى اختلاف المسميات نجد أنَّ كل دارس أخذ يحشد حججه، مدافعاً عن وجهة نظره، ومبرزاً دلالاته الأولية، إلّا أنّنا نجد أنّ "الفضاء أوسع وأشمل من معنى المكان، والمكان بهذا المعنى يمثل جزءاً من مكون الفضاء، ويشير إلى (المسرح) الروائي بكامله، والمكان يمكن أن يكون فقط متعلقا بمجال جزئي من مجالات الفضاء"، فالمكان من خلال نظرة حميد لحمداني محدود يشكل جزءاً من الفضاء، إلّا أننا نجد عبد الملك مرتاض يختار مصطلح الحيز على الفضاء، وذلك "لأنّ الفضاء قاصر بالقياس إلى الحيز، لأنّ الفضاء من الضرورة أن يكون معناه جارياً على الخواء والفراغ، بينما الحيز ينصرف في استعماله إلى النتوء والوزن والثقل، والحجم والشكل، على حين أنّ المكان نريد أنْ نَقِفَه في العمل الروائي على مفهوم الحيز الجغرافي وحده"، فمرتاض من خلال نظرته يوحي بترادف مصطلحي الحيز والمكان، وإفصاحه عن تفضيلهما على مصطلح الفضاء، وبعيداً عن الاختلاف في التسمية ، نجد أنّ المكان قد وجد اهتماماً متعاظماً من الدارسين، لِما له من أهمية ودلالات في العمل الروائي، نبع هذا الاهتمام من كونه ليس مجرد شيء صامت تقع فيه الأحداث التي يصنعها الإنسان يتفاعل معها، بل لأنّه عنصر أساس في العمل الروائي، ويحمل دلالات متعددة، ولذلك نجد أنّ باشلار يقول: "إنّ العمل الروائي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته وبالتالي أصالته".
لا خلاف بين النقاد في أنَّ المكان الروائي تصوِّره اللغة، وليس "هو المكان الطبيعي أو الموضوعي، وإنّما هو مكان يخلقه النص الروائي عن طريق الكلمات، ويجعل منه شيئاً خيالياً"، ولذلك نجد الراوي في تشكيله للمكان يلجأ إلى وسائل متعددة، على رأسها الوصف، فالروائي يوظف قدراته الوصفية ليبدو لنا المكان أكثر وضوحاً بتفاصيله الدقيقة ودلالاته العميقة، فالوصف يُبرِز لنا محتويات المكان التي نتوصل بها إلى دلالاته، وهذا نابع من كون الوصف "ذكر الشيء كما فيه من الأحوال والهيئات"، فالوصف الروائي للمكان هو بمثابة الديكور في العمل المسرحي يلعب مع الأحداث والشخصيات دورا كبيراً في فهم المكان. وكذلك نجد أن وصف المكان لا ينحصر في إلقاء الصفات عليه أو على متعلقاته بصورة مباشرة فقط بل قد يتخطى الروائي ذلك الوصف إلى استخدام الصورة الفنية، حيث أنّ "الصورة هي في الوقت نفسه الشكل الذي يتخذه الفضاء، وهي الشيء الذي تَهِبُ اللغة له نفسها، بل إنها رمز فضائية اللغة الأدبية في علاقتها بالمعنى"، فاللغة عندما تبرز المكان في صورة فنية يكتسب المكان في النص صفات مغايرة لما هو موجود في الواقع، تتخطى هذه الصفات حاسة البصر، وتقدم صورة مكانية ترتبط بأحاسيس الإنسان. وكذلك نجد أن اللفظ أحيانا يخرج عن مدلوله المنصوص عليه في عُرف اللغة إلى معان يحددها سياق النص الروائي، فتكتسب بذلك أبعاداً دلالية أعمق، فكلمة الصحراء مثلاً تدلُّ على مكان بعينه، إلّا أنها في سياق النص الروائي قد تحمل دلالة الرمز للحرية، بحكم أنّ الصحراء لا تخضع لسلطة أحد، وهكذا نجد قيمة المكان في العمل الروائي فهو لا يستمد قيمته من كونه وعاءً للأحداث التي تحركها شخوص العمل الروائي.
مما سبق يجدر بنا أن نقول: بما أنَّ الإنسان يعيش في عالم ذي بعدين أساسيين يتمثلان في الزمان والمكان، وينمو ويتطور وفقا لموروثاته الفكرية متأثرا في هذ النمو ببيئته، والمكان يعدّ أقدم من الإنسان، والإنسان بوجوده وكينونته في المكان يعيد تشكيله وتحويله إلى أشكال مختلفة حسب احتياجاته الحياتية، ووفق ثقافته، ولذلك نجده يمثل عنصراً سرديا مهما في العمل الروائي، ويلعب دوراً بارزاً في تشكيل أحداث العمل الروائي، ويؤثر في تلك الأحداث وفي شخصيات الرواية ويتأثر بها، فلا يمكن أن تحدث أحداث إلّا في حيز مكاني، ولا يمكننا أن نتصور شخصية روائية تتفاعل مع ما يحيط بها إلّا داخل حيز مكاني، فالمكان تتحرّك فيه الشخصيات التي تحرِّكها الأحداث، وتحرّك الأحداث، وتتفاعل معها ، فهو "حقيقة معاشة ويؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه"، وكذلك نجده أيضاً يمثل "في العمل الفني شخصية متماسكة، ومسافة مقاسة بالكلمات، ورواية أمور غائرة في الذات الاجتماعية. ولذا لا يصبح غطاءً خارجياً أو شيئاً ثانوياً. بل هو الوعاء الذي تزداد قيمته كلما كان متداخلاً بالعمل الفني".
المكان ـ النص الروائي ــ قيمة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع