مدونة حسين سالم مرجين


مفارقات الأمومة بين الأمس واليوم

حسين سالم مرجين | Hussein Salem Mrgin


12/09/2024 القراءات: 11  


تظهر مفارقة سوسيولوجية لافتة للانتباه ومثيرة للاهتمام، تستند إلى مشاهدتي ومعايشتي للوقائع المجتمعية والأسرية، وخاصة تلك المتعلقة بتربية الأمهات. تتمثل هذه المفارقة في أن الأمهات الأقل تعليمًا يُظهرن قدرة ملحوظة على تربية أبنائهن وتحسين تحصيلهم العلمي والأخلاقي، بينما تعاني الأمهات الأكثر تعليمًا من ضعف في تربية أبنائهن، حيث يبدو أن الأبناء لا ينصاعون لهن، مما يؤدي إلى ظهور مشاكل أسرية تؤثر سلبًا في حياتهن.
كما لوحظ تسرب الأبناء من التعليم وانخفاض مستويات أخلاقهم في هذه الفئة. لذا، نحن هنا أمام مرحلتين متميزتين ومختلفتين في تأثير التعليم على التربية. ومن المهم أن نصارح القارئ منذ البداية بأن هذه المفارقة لا تزال بحاجة إلى تحليل دقيق لفهم أبعادها وعواقبها.
كثيرًا ما أجد نفسي أمام قصص واقعية تُبرز نجاحات حققتها أمهات غير متعلمات في تربية أبنائهن. من بين هذه القصص المثيرة، هناك قصة أستاذ قام بإجراء استبيانات موجهة إلى المسؤولين في الدولة الليبية، من وزراء ومديري شركات كبرى. وتضمنت هذه الاستبيانات سؤالًا حول الوضع التعليمي للأم. أظهرت غالبية الإجابات أن الأمهات غير متعلمات، مما يعني أنهن أميات لا يقرأن ولا يكتبن. وعندما قام الطالب بتحليل النتائج وعرضها على مشرفه الأجنبي، لم يُصدق ذلك، إذ كيف يمكن أن يكون مخرجات هؤلاء الأمهات غير المتعلمات مسؤولين في الدولة وعلى مستوى الوزارات؟ هذه الجزئية الأخيرة تحمل أهمية كبيرة، إذ تطرح تساؤلات حول العلاقة بين التعليم ونجاح الأبناء في الحياة العملية.
تدفعنا هذه المفارقة (المسكوت عنها) إلى إجراء مقارنة بين مخرجات الفترتين: فترة التعليم التقليدي للمرأة وفترة خروجها إلى التعليم الحديث. ففي حين كانت مخرجات الفترة السابقة متميزة من حيث المستوى التعليمي والأخلاقي، نجد أن مخرجات المرحلة الحالية تعاني من تدنٍ واضح في هذين الجانبين.
لا ينبغي أن يُنظر إلى هذا على أنه دعوة لعدم تعليم المرأة، بل هو دعوة للتأمل في أهم الممارسات الجيدة التي كانت تمارسها النساء في السابق، دون التركيز على عامل التعليم فقط. فقد شهدنا تراجعًا في جودة المخرجات، مما يستدعي دراسة العوامل التي أدت إلى هذا التغير.
عموماً، مما يعنينا الإشارة إليه في هذا الخصوص هو وجود عدد من العوامل المتشابكة والمعقدة (حسب وجهة نظري) التي ساعدت في بروز هذه المفارقة، والتي لم تكن مصادفة عابرة، بل هي نتيجة لزيادة الفجوة بين الجيل الأول من النساء والجيل الثاني. ويمكن حصر هذه العوامل في الآتي:
1. أعتقد أن المستوى التعليمي للأم ليس العامل الوحيد في تربية الأبناء؛ فهناك عوامل أخرى مهمة مثل البيئة الاجتماعية والاقتصادية، والدعم العاطفي، وأساليب التنشئة الاجتماعية، التي قد تؤثر بشكل أكبر على نتائج الأبناء.
2. قد تكون للأمهات الأكثر تعليمًا توقعات أعلى وطموحات أكبر لأبنائهن، مما يجعل التوافق بينهن وبين الأبناء أكثر تعقيدًا. بالمقابل، قد تتمتع الأمهات الأقل تعليمًا بتوقعات أكثر واقعية وطرق تربوية أكثر مرونة.
3. يؤثر المستوى التعليمي للأم على طرق التواصل والتفاعل مع الأبناء. فالأمهات الأكثر تعليمًا قد يستخدمن أساليب أكثر تعقيدًا وتوجيهية، بينما قد تكون طرق الأمهات الأقل تعليمًا أكثر بساطة وقربًا من الأبناء.
4. هناك احتمال أن الأمهات الأقل تعليمًا يمتلكن وقتًا أكثر للتفاعل المباشر مع أبنائهن، مما يتيح لهن تقديم الدعم العاطفي والمتابعة اليومية بشكل أفضل.
5. لم تعد الأسرة معزولة عن التأثيرات الخارجية كما كان في السابق. فقد أصبح للأبناء وصول سهل إلى المعلومات والتواصل مع الآخرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، مما يؤثر على أساليب التربية والتنشئة. هذا التفاعل مع العالم الخارجي قد يغير القيم والمعايير التي يتم تعليمها في الأسرة، مما يتطلب من الأمهات، بغض النظر عن مستواهن التعليمي، التكيف مع هذه التغيرات.
ليس غريبًا إذن، في ظل هذه البيئة التي ظهرت فيها الممارسات الجيدة للأمهات الأقل تعليمًا، أن تظهر الفجوة في النتائج. وهذا ما يفسر أن بنية أداء الأسرة قد تغيرت من الداخل ومن الخارج. عمومًا، فإن هذه المفارقة المثيرة للاهتمام تحتاج إلى دراسة وتحليل دقيق لفهم أهم الممارسات الجيدة التي كانت تمارسها النساء في السابق، دون النظر إلى عامل التعليم فحسب. كما يتطلب الأمر الغوص في هذه الممارسات للوصول إلى فهم أفضل لآثارها ودورها في تشكيل سلوك الأبناء. إن فهم هذه الممارسات يمكن أن يسهم في استنباط استراتيجيات جديدة تُعزز من جودة التربية، وتساعد في تحقيق توازن بين التعليم والتربية، مما يساهم في إعداد جيل قادر على مواجهة التحديات بكفاءة ونجاح.


الأمهات الأقل تعليمًا- الأمهات الأكثر تعليمًا - التربية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع