مدونة البرفسيور محمد عبد الرحمن يونس


مرآة من مرايا بلادنا العملاقة قصة قصيرة

البروفسيور محمد عبد الرحمن يونس | professor : Mohammad Abdul Rahman Younes


05/03/2025 القراءات: 10  


مرآة من مرايا بلادنا العملاقة
قصة قصيرة
محمد عبد الرحمن يونس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا من يصدّق خبرة بحقّ الله(1).. وتأمّل الرجل السماء الزرقاء البعيدة. وأحنى ظهره: يا مفني الخلق.. يا خالق الخلق .. يا هادم الأمم.. أنا أموت جوعا.. أمّا من خبزة واحدة تطفئ وجعي في هذه الريح الملعونة.!!,
يأتي الصوت راجفا حنونا منكسرا، منطويا، متدثّرا بوحدته.. يغصّ وجه الغريب بنغمة حزينة.. ينحني على عصاه مقوّس الظهر.. يميل برأسه إلى الأمام، ثم يكرر نداءه: يا من يصدّق خبزة بحقّ الله.
يمدّ يده للسيل الزاحف من البشر المتسكعين الذين يملأون أرصفة المدينة، في طريقهم إلى الحانة المركزيّة، التي افتتحها مولانا الباشا في احتفالات بلادنا السعيدة، تيمنا بالذكرى الخامسة والعشرين لتربّعه على عرش أجداده الميامين. يشيح الناس بوجوههم عنه.. يهرب الخبز مسرعا، يصبح خلبا، يتدحرج بعيدا.. تلتقطه القطط السياميّة من الأيدي الكريمة البيضاء المخضّبة بعطور هوليود، والكحل العربي الأصيل، الذي شكّله أمهر عطاري بلادنا السعيدة.
يمدّ الغريب يده.. يهرب الخبز، فيطفح وجهه مسحة هادئة كئيبة، ترسل أشعتها لتخترق الشارع الرئيس، ثم تعود نافذة إلى أعماق شرايينه.
يرتجف الوجه والأصابع.. تضيق حدقتا العين.. يرتجف العكّاز ثمّ ينوح على وقع الدفوف والطّارات، ودقّ الأكواب والكؤوس .. ( تشيرز أيها الزمن الجميل).. ( أفك فوتر سونتي) أيتها البلاد السعيدة.. بصحتك يا سيدتي الأميرة.. بصحة عشاقك وجواريك، والسادة المنبطحين على خفي نعليك البهيين. هات الطاس والكأس أيها الساقي.. لن أصحو بعد الآن.. فما أجمل أن يبقى الفرد مهزوما وسكرانا دائما، و يصفّق للباشا كلّما اتّخذ خليلة و كلبا وسيارة من تكساس الساحرة!. أليست تكساس هي الأصل والحضارة، والحبيبة والصاحبة بولد وبغير ولد، والأفق الشاسع المفتوح صوب ( مادونا) و( مارلين مونرو) و( بروك شيلدز)؟
ترتفع الكؤوس .. تهبط.. تتشامخ صدور النساء متلألئة عبقة.. وقع رنينها يغطي أرض الشارع ، وسماءه، وزواياه.
يقترب الغريب، لكنّ (الخبزة) تمتطي ظهر جواد، رُوِّض ليدخل في مسابقات فروسية كأس العرش، وملكات جمال المدينة، وصاحبات شركاتها، وعاهراتها المدمنات. يفلت لجام الحصان، وكالسهم ينطلق نحو قصر( الصخيرات)، حيث الجواري و الخليلات يستحممن بجوز الهند، وعطور( لاس فيغاس).
ترتدّ يد الغريب بيضاء فارغة.. مسحة الحزن تزداد انكسارا.. لا أحد الليلة مستعد لأن يتصدّق.. أين أصحاب الخير؟؟.. أين خبزة المحسنين؟ تطير.. تصبح شعاعا ثمّ تختفي.. ينطوي الغريب مسكونا بوجعه.. يعلو صخب المدينة.. تغصّ الحانة المركزيّة .. يتوارى الناس عنه.. يسند رأسه على عكازه.. تختلج عيناه راعفتين، ثمّ يصمت متأملا الناس.. مستسلما لشعور غامض يملؤه وحشة صامتة.. يشرق وجهه بالدمع، ثمّ يتّجه قاطعا أزقة( ألكزا) العتيقة صوب شاطئ البحر، وهو يستغيث ( يامن يتصدّق خبزة بحقّ الله).. يفترش صخور البحر، يخرج نايه ، يسرح بعيدا في فيافي بلاده. وكثيرا كثيرا ، يعود حلمه، وفيرا وسرورا، بريقا، تاجا، خيرا ، مدنا وأنهارا، وبلدانا وشطوطا، ودجلة والفرات والنيل، ويهدم المدن مدينة مدينة: إرم ذات العماد ، و واق الواق, وسبتة ومليلية، ويكسر منابر جامعاتها، صرفا ونحوا، وافرنقع واحرنجم، ووزارات ومؤسسات بليدة، متخمة بالهلاك الشاسع، والقذى،و رياح الخماسين من بغداد إلى شيراز إلى البصرة، حتى دمشق والكوفة، والإسكندرية، مرورا بمكة والمدينة والخرطوم.


قصة ، أدب عربي حديث، دكتور يونس