مدونة د. محمد عدنان علي الزبر


لماذا دولة القانون، والدعوة لدولة مدنية؟!: (الدولة والعشيرة مرة أخرى)

د. محمد عدنان علي الزبر | Dr.Mohammed Adnan Ali Zeber


26/10/2020 القراءات: 879  


ابتداء نقصد بدولة القانون، دولة المؤسسات والدولة التي تستأثر فيها السلطة الوضعية بتنظيم العلاقات الاجتماعية، ودولة المشروعية والشرعية معا، وفي هذا الصدد لرب سائل يسئل عن حق لماذا هذا الاصرار والتأكيد على ضرورة التأسيس لدولة مدنية لا يحكمها غير القانون، والقارء قد يكون محقا في استغرابه وتسائله، لماذا هذا التكرار والتأكيد من قبل صاحب هذه السطور للمطالبة في التأسيس لدولة مدنية.
شتان ما بين النظرية القانونية والواقع التطبيقي في العراق!
أحبائي: كثيرٌ منا مطلع بأحكام القانون نظرا لاختصاصه، أو هو مطلع عليه على أقل تقدير بحكم حياته العملية، وعلى مستوى من درس أو يدرس القانون وجد أو سيجد أن هناك بون شاسع جدا ما بين ما تسطره الكتب والبحوث العلمية القانونية من نظريات من جانب، وبين ما يفرضه الواقع من جانب اخر، وهذا البون وَلَدَ لدينا نوع من الازدواجية وأضعف ثقة المواطن قبل رجل القانون بمبادئ وأحكام القانون حتى صار سائدا أن ليس كل ما يُدرس هو الواقع، وليس كل ما يأمر به القانون ينبغي طاعته!، ولعل ذلك في مجتمعنا فحسب أو بعض الدول التي لازالت القبيلة هي من تحكمه والسلطة الوضعية فيها تلفظ أنفاسها الاخيرة، فسنوات الدراسة الجامعية الغاية منها هو اعداد الطالب ليواجه الحياة العملية ويكون مستعدا بما توفرت لديه من خبرة علمية في تسخيرها في ممارسة اختصاصه، وكثيرا ما نُحرج امام طلبتنا الاعزاء عندما يتسائلون هل ما ندرسه الان سنلقاه غدا عند الممارسة، في مجتمع تحكمه العشيرة بدل الدولة، وتغلبه العلاقة بدل المؤسسة، وهذا ما يدفعنا الى إعادة النظر في طرق معالجتنا لظواهرنا الاجتماعية ومعالجتها بما ينسجم مع الواقع وذلك لا يتحقق إلا بتدخل تشريعي ناجع، وبنظرية علمية قانونية متماسكة تتماشى مع واقع المجتمع العراقي لكي تدفع بعجلة التغيير نحو دولة لا يحكمها إلا قانون السلطة الوضعية وذلك لا يأتي بكثرة الشعارات وإنما بمنهجية تمزج في طياتها الطموح والواقع الاجتماعي، مع الاخذ بعين الاعتبار تجارب الامم الاخرى التي لها من واقعها الاجتماعي ما لدينا وسعت فنجحت نحو بناء الدولة المدنية.
وفيما يتعلق بعلاقة العشيرة كقوى فاعلة في المجتمع مع الدولة، ونحن نقر بأننا مجتمع عشائري، ونؤكد على ضرورة تفعيل التحكيم العشائري وبتنظيم قانوني وإشراف قضائي لأسباب سبق وان سقناها في مقالنا السابق والموسوم : التحكيم العشائري والتأسيس لدولة مدنية المنشور في جريدة الزمان بإحدى اعدادها.
ولكن هناك بعض الملاحظات ينبغي التأكيد عليها لتتضح الصورة لدى القارئ الكريم، وليعرف سبب التأكيد على معالجة هذا الموضوع بآلية قانونية:
لماذا القانون وليس العشيرة؟:
أولا: لا يمكن التأسيس لدولة القانون إلا بعد استئثار تنظيم العلاقات الاجتماعية بيد السلطة الوضعية، بما فيها فض المنازعات ما بين افراد المجتمع، واذا ما مُنحت مثل هكذا صلاحيات لجهات أخرى كالعشيرة فينبغي أن يكون بنص قانوني يجيز ذلك وينظمه في ذات الوقت، كما نص على ذلك قانون المرافعات العراقي رقم 83 لسنة 1969 المعدل في المواد (251- 276) والذي أجاز التحكيم، والوساطة الجزائية التي نظمته بعض التشريعات المقارنة، ولكن كما نلاحظ ان هذه التشريعات لم تترك الحبل على الغارب وانما قيدته بقيود بعضها موضوعية واخرى اجرائية، وفي العراق ينبغي أن يكون التحكيم بإشراف قضائي، والوساطة الجزائية في التشريعات المقارنة ينبغي أن يتم بإشراف قضائي وفي جرائم محددة عادة ما تقتصر على البسيطة منها، وهنا يُثار التساؤل التالي: هل تُراعي العشيرة او غيرها عند فض النزاع الاجتماعي هذه القيود القانونية، وهل شاهدنا بحياتنا ان شيخ عشيرة وهو جالس في "المضيف"، يفتتح الجلسة بمراعاة النصوص القانونية التي وردت في قانون المرافعات العراقي والتي تجيز له ممارسة هذا الاختصاص، وبإشراف قضائي!!، بالتأكيد لو فعل الشيخ ذلك لأصبح مهزلة عصره، نظرا لأن الشعور ألا ارادي لدى المجتمع العراقي يستهجن الاستعانة بالقانون عندما يحتكم الى العشيرة، والعشيرة عندما تحكم، تحكم بما تفرضه السانية أو السنينة وليس لها علاقة بما يفرضه القانون؟.
ثانيا: ولو افترضنا ان العشيرة وغيرها من الجهات المعنية بفض المنازعات لا حاجة بأن تُراعي القانون مادام انها تحقق غاية سامية تتمثل في فض المنازعات الاجتماعية وتحقيق السلم والامن الاجتماعي، وكما تعلمون ان القانون عموما يتكون من قواعد قانونية (موضوعية) مكملة أو مفسرة يجوز الاتفاق على خلافها، وقواعد قانونية آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها واي اتفاق يحصل فهو باطل لاعتبارات تتعلق بمصلحة المجتمع والفرد، فهل تُراعي العشيرة هذه القواعد ولا تخالفها، أم ان للعشيرة قانونها الخاص ولا تعتد اصلا بقواعد القانون الآمر منها او المكمل؟!.
ثالثا: هناك مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص درسناه حتى أتخمت أسماعنا منه، و"الجلوة" على سبيل المثال كعقوبة تفرضها العشيرة على الجاني وأهله وبموجبه نتسائل، هل ورد في تنظيمها نص قانوني، واذا كان الجواب (لا) وهو بالتأكيد (لا)، اذن علينا أن نتسائل كيف يجوز لنا أن نفرض عقوبات لم ينظمها القانون وأين اذن مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني!!، اذن علينا ان نعدل المادة 19 من الدستور والمادة 1 من قانون العقوبات لتكون بالشكل التالي: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني أو ما تفرضه الاعراف العشائرية من أحكام)، ليكون منسجما مع الواقع الذي نحن فيه، وإلا علينا كرجال قانون أن نضع مبادئ قانونية غير التي ندرسها الان لتتفق مع الواقع ولكي لا يكون هناك تفاوت كبير ما بين مانحن فيه ومانحن ندرسه من أحكام ومبادئ قانونية.
رابعا: هناك مبدأ أخر وهو "مبدأ شخصية العقوبة"، وهنا يُثار التساؤل التالي هل تراعي الاعراف العشائرية هذا المبدأ، أم ان كل من ينتمي للجاني من قرابة هو مُعرض للقصاص والانتقام ليس لذنب سوى انه يرتبط بنسب مع الجاني ولربما يُقتل هو ويترك الجاني يجول ويمرح، وفي اطار الحديث عن الجلوة التي أشرنا اليها.


الدولة المدنية، العشيرة، القانون الوضعي، قانون العشيرة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سعادة الدكتور محمد عدنان علي..مقال ممتاز ومميز، يدل على مهنية وتخصصية،استفدت منه كثيرا..والحال عندنا في السودان شبيه بالحال عندكم في العراق الشقيق من ناحية القبائل والعشائر، ونزعة الانتصار للقبيلة في كل الأحوال، فهي القبلية التي نهى عنها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. زادك الله علما وتقى ورفعة ونفع بك وبعلمك.