مدونة خالد بن فتحي بن خالد الآغا


تقييم الحضارة وتقويمُها بين أمانة المؤرخ وبصيرة المفكر

خالد فتحي خالد الآغا | Khaled Fathi khaled Alagha


29/08/2020 القراءات: 3787  


بين المؤرخ والمفكر علاقة وثيقة تثمر بحسب طبيعة التفاعل بينهما، وإذا كان عملُ المؤرخ إعادةَ تمثيل ما كانَ كما وُجِدَ عليه في نَفْسِ الأمر، وقراءتَهُ قراءةَ اعتبار، فإن عمل المفكّر هو التبصّرُ في مواطن العِبَر وتبصيرُ الناس بها، وكما أنّ عمل المؤرخ يصبح خَلِيّاً عن المنفعَةِ إذا تدخل في إعادة تشكيل التاريخ، فكذلك المفكر حين يَجْتَزِئُ من الصورة بعضَها ويغفُل عن الإطار الناظم لصناعَة الفكر.
تصور كيف يكون الحال حين يخرق المؤرخ قانون التاريخ، ويخرق المفكر قانون الفكر، حينَها يطالُ التشويهُ الأساس والفرع، إذ لا سلامَةَ للفِكْرِ إلا بقراءة التاريخ قراءةً سويّةً صحيحة مشمولة ببركة قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
لقد كثر في دنيا الناس نعتُ المفكر بالحر، ونعت الفكْر بالحرية، وهذا أمر طبيعي لأن الناس دائما تُولَع بما تَفْقِد، لكن حريّة الفكر -شأنها شأن كل ما خُلِقَ في هذا الكون- لا بدّ لها – كالشمس - من قانون يضبط حركتَها ولا يحد من عطائها.
وإلا يكن ذلك؛ كان هذا من قبيل عبث الفكر لا حرية الفكر، ومن صفة العبث التناثر والانشطار، فيعبثُ الفكر في الماضي لينتِجَ عَبَثاً في الحاضر والمستقبل.
أليس من العبث في الفكر والتاريخ مثلا الزعْمُ بأن الحديث عن فضل الحضارة (العربية) على الحضارة الغربية وهمٌ من الأوهام، وأن (العرب) لم يقدموا شيئا خلال قرنين من الزمان (يعني القرنين الأخيرين)، بل إن الأسلافَ من قَبْلُ من قدم منهم شيئا للحضارة إنما كانوا أفرادا خارجين عن نسق الثقافة العربية؛ متأثرين بالفكر اليوناني، منبوذين عندنا، ولو رُوجِعَتْ كثيرٌ من الرسائل والأطروحات العلمية لظهر أنها كانتْ تكريساً للجهل وتبريرا لنمط من الفكر تعيشه الأمة منذ مئات السنين!
مثل هذا الكلام مليء بالمغالطات، وهو مما اجتمع فيه العبثان، وانضاف إليهما عبث ثالث بإقحام الحضارة (العربية) في السياق، لأن حقيقة المراد وراءَ الكلام هو الحضارة الإسلامية، وإلا فلو نُزِعَ عن العروبة رداء الإسلام؛ فما الذي سيبقى لها من حضارة وتاريخ؟
على أننا لو أبقينا رداء الحضارة الإسلامية على الأمة العربية واجتزأنا قراءةَ تاريخها منفصلاً عن محيطها الإسلاميِّ الكبير – كما يقرأ الطبيب القلب مُجْتَزَأً عن الجسد – لكان مُقْتَضى الأمانة العلمية ألا نَشُوبَ قراءتَنا بعبَثِ الفكر والعبث في التاريخ، ليكون الحكم عليها قائما على سنة العدل، مع قطع النظر عن النتيجة التي نتوصل إليها.
فما الذي يعنيه مفهوم الحضارة؟، وما هي مقوماتها؟، وما هو الميزان التي توزنُ الحضارةُ به، وبه تُقَوَّم؟ وهل العلاقة بين الحضارات علاقة تدافع أم تكامل أم تدافع من وجه وتكامل من آخر؟، وهل يمكن لحضارة أن تنشأ من الأساس منقطعةَ الجذور والصلات بغيرها من الحضارات؟ وهل ثمة ما يميز الحضارةَ الإسلامية عن غيرها من الحضارات؟، هذه الأسئلة وغيرها كثير هي أول ما يتبادر إلى الذهن عند النظر في هذه المزاعم، وإغفالُها جهلا أو التغافل عنها قصدا هو الذي يفضي إلى مثل هذا العبث في الفكر والتاريخ، وهو الذي يجعلنا في منأىً عن إنصاف أنفسنا قبل أن ينأى غيرُنا عن إنصافنا.


المؤرخ، المفكر، الفكر، التاريخ، حرية الفكر، الحضارة العربية، الحضارة الإسلامية، الثقافة العربية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع