ظاهرة الإلحاد وكتم العلم (المسؤولية المزدوجة)
يوسف الحزيمري | Youssef El hzimri
10/04/2022 القراءات: 1687
إننا أمة مستهدفة في عقيدتها وتشريعها وأخلاقها وقيمها، وهذا ما أكده القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غير ما آية وحديث، ولو أوردنا ذلك لخرج الموضوع من مقالة إلى كتاب، وهو ما يرد على النافين لنظرية المؤامرة، أو الذين لا يعيرونها أي اهتمام فيما تتعرض له الأمة الإسلامية من غزو فكري ممنهج، وما انتشار الأفكار الهدامة، التي تستهدف الجانب العقدي والتشريعي والأخلاقي في أوساط الشباب والناشئة إلا غيض من فيض هذا الغزو.
والرسالة هنا تتأكد على أهل العلم الشرعي عقليه ونقليه، في الذود عن الحصون المهددة من الخارج والداخل، فهذه ظاهرة الإلحاد تستشري في أوساط الشباب بأسباب عدة، أهمها تراجع وإدبار العلماء عن القيام بواجب الدفاع والحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المنحرفين في الاعتقادات، وهو الدور الذي كان يضطلع به علماء الكلام قديما في مواجهة الأهواء والانحرافات فيما يتعلق بالرؤية الكونية للخالق والخلق، والمبدأ والمصير، وإذا كان لكل عصر آلياته العلمية والعملية والمنهجية، فإننا اليوم مدعوون إلى تجديد تلك الآليات بما يناسب هذا العصر، وما الدعوة إلى علم كلام جديد سوى استشعار لهذا الخطر الداهم، وعدم نجاعة الأساليب القديمة في مواجهة الشبهات العقدية الحديثة.
إن ما كتب في علم الكلام الجديد لم يراوح مكانه، وإنا نرى الدرس العقدي في العالم الإسلامي لا زال يعتمد على المتون القديمة، بنفس الموضوعات، ونفس المناهج، ونفس الاصطلاحات، فهل نتوفر اليوم على مثل العناية القديمة لعلمائنا لتحقيق الأمن العقدي للناس؟، وهل نتوفر على عقائد مجردة مصاغة بلغة بسيطة، ومصطلحات حديثة، يتلقاها أبناؤنا في تعليمهم الأولي؟، وتكون هذه العقائد متضمنة ما استجد من دلائل، وآيات، وحقائق، في مجال العلوم المختلفة؛ علما بأن هذه المتون القديمة التي كانت موجهة إلى العامة، إذا عُرضت اليوم على طلبة الجامعات فلا يستطيعون فك ألفاظها بله معرفة معانيها.
إننا بالنظر في دوافع التأليف في العقائد عند علمائنا قديما، نجد دافع واجب الأهلية العلمية، ودافع فساد الزمان، وانعدام الفهم، والغيرة والشفقة على عوام المسلمين، والطلبة، والإتيان بالجديد في التصنيف منهجا وموضوعا، ودافع الاختصار، وهي الدوافع المتجددة اليوم، ومنها ينبغي الانطلاق في كل تجديد يروم علم الكلام، لتحقيق أهدافه المنشودة منه.
إن من أخطر المظاهر إلى جنب ظاهرة الإلحاد هي (كتمان العلم)، وهي الظاهرة التي توعد عليها الله بلعنته ولعنة اللاعنين، وما لُعِن عُدَّ من الكبائر، لكون ضررها متعد، ذلك أن الكتمان لا يؤثر فقط في العلاقة بين العبد والرب، ولكنه يضر العباد[1]. وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
وتوالت أقوال المفسرين على عموم الآية الكريمة في كل كاتم ومكتوم، فقال أبو حيان الأندلسي: "والأولى والأظهر: عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب، وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره...وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن"[2].
وقال الشيخ طنطاوي: "والآية الكريمة وإن كانت نزلت في أهل الكتاب بسبب كتمانهم للحق، إلا أن وعيدها يتناول كل من كتم علما نافعا، أو غير ذلك من الأمور التي يقضى الدين بإظهارها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"[3].
والكتمان في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة: 159] عام، وهو إخفاء الشيء قصدا مع مسيس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره[4]. وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه[5]. أو هو عدم الإخبار بما من شأنه أن يخبر به من حادث مسموع أو مرئي[6]، كما يكون الكتمان حسب الشيخ ابن عاشور رحمه الله: "بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلا وهو ظاهره، قال تعالى: {وتخفون كثيرا} [الأنعام: 91]، ويكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له".[7]
ومن ثم كان الاستثناء من الوعيد: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]
فآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق، والاعتراف به، والعمل بمقتضاه[8].
لذلك اشترط في توبتهم إظهار إصلاحهم والمجاهرة بأعمالهم، ليكونوا حجة على المنكرين، وقدوة صالحة لضعفاء التائبين[9]، فذنب الكاتمين كان بترك البيان والتبليغ، فتكون التوبة بالبيان والتبليغ[10].
وهذه الآية أصل في المراجعة الفكرية لكل أشكال الكتمان، بشرط التوبة والإصلاح والتبيين.
ثم إن المسؤولية ملقاة على عاتق العلماء اليوم في الالتزام ببث البينات والهدى التي أنزلها الله في كتبه وعلى رسله، قال ابن عاشور: "فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة، سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة، والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيرا للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله».
وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعه"[11].
ظاهرة الإلحاد- ظاهرة كتم العلم- المسؤولية المزدوجة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
الهوامش: 1. تفسير الشعراوي (2/ 677) 2. البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي (2/ 69) 3. التفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 325) 4. التفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 324) 5. تفسير الألوسي = روح المعاني (1/ 425) 6. التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (2/ 66) 7. التحرير والتنوير (2/ 67) 8. في ظلال القرآن، لسيد قطب (1/ 151) 9. تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا (2/ 41) 10. زهرة التفاسير، لأبي زهرة (1/ 480) 11. التحرير والتنوير (2/ 69)