مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
كيف تبنى الأوطان؟ - الثالث عشر: إيجابيَّة الرَّعيَّة -
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
24/02/2025 القراءات: 12
كيف تبنى الأوطان؟ - الثالث عشر: إيجابيَّة الرَّعيَّة -
إنَّ بناء الأوطان هو أمر مُقدَّس وواجب وطني يتطلَّب الوعي المستدام وتضافر الجهود من جميع أفراد المجتمع، وإيجابية الرعية تعتبر رأس المال البشري وحجر الزاوية في هذا البناء؛ فعلى الرعية أن يكونوا إيجابيين، وحريصين على صلاح الدين والدنيا، قال الله تعالى عن هدهد سليمان عليه السلام: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، يبدأ الهدهد حديثه بمفاجأة ضخمة تطغى على موضوع غيبته، وتضمن إصغاء الملك له، فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)! ففي هذا الموقف نرى الدور الإيجابي لأحد الرعية، إذ الهدهد كان يساهم في بناء الوطن، وكان منضبطاً في نقل الأخبار، حيث أخذ في تفصيل النبأ اليقين الذي جاء به من مملكة سبأ.
واليوم في عصر المعلومات والتكنولوجيا، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي سلاحًا ذا حدين، فمن جهة، تتيح للأفراد التعبير عن آرائهم ومشاركة أفكارهم، ومن جهة أخرى، تُسهم في نشر الشائعات والأخبار غير الموثوقة.
هذه الظاهرة تشكل تهديدًا حقيقيًا للأمن الاجتماعي؛ حيث يمكن أن تثير القلق والخوف بين أفراد المجتمع؛ لذا فمن الضروري أن نكون واعين للمسؤولية الملقاة على عاتقنا في التعامل مع المعلومات الموثوقة، ولنأخذ درساً من قول الهدهد لنبي الله سليمان عليه السلام: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) فلا بد من التثبت في الخبر، وألا ننجر خلف الشائعات المغرضة، وأن نتحلى بالوعي النقدي في استهلاك الأخبار.
وكان من النبأ اليقين {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، فمعرفة أحوال البلاد المجاورة من الأهمية بمكان، وما عندهم من إمكانات وطاقات، وهذا موقف إيجابي آخر لبناء الدولة.
ومع كل هذا لا بد من القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، فقد حزن الهدهد أن يُعبَد غير الله سبحانه، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُون. أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 24، 25].
ولما كان الأمن في الأوطان من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، وهو ثمرة من ثمرتين للإيلاف {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، ومن عظمة نعمة الأمن أن سألها الأنبياء والمرسلون، فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام سأل الله تعالى الأمن للوطن مرتين: مرة سأل الله تعالى عندما أمره أن يكون في مكة قبل البناء والتعمير فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [البقرة: 126].
ومرة سأل الله تعالى الأمن للوطن بعد التعمير والبناء فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا} [إبراهيم: 35]، فكأن الباري جل جلاله يعلمنا بالدعاء قبل تعمير الوطن وبعد تعميره؛ أن من حق الوطن الاستمرار في الدعاء له بالأمن، وأن الدعاء بذلك حق من حقوق الأوطان على الرعية، وأدب من آداب عباد الرحمن.
والإيلاف إيلافان: إيلاف خاص وإيلاف عام؛ فالإيلاف العام يكون داخل الوطن، والإيلاف الخاص يكون خارج الوطن، فعلى جميع أفراد الأمة أن تحافظ عليهما، وترفع من شأنهما.
إن الاتحاد بين أبناء الوطن يحقق القوة والمنعة، والتعاون بينهم يدفع عجلة البناء والتطوير والبناء والرقي، وَلَيْسَ بِغَرِيبٍ أَنْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ لَبِنَاتِ بِنَاءِ الوَطَنِ وَالأُمَّةِ، حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وَجَمَعَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الأُلْفَةِ الإِيمَانِيَّةِ بعد وصوله إلى المدينة المنورة..
فعلى الأمة بأسرها أن تعلم أن التخطيط الجيد للمستقبل؛ والتطبيق المتقن والرصين هما فَرَسَا مَجْدٍ لبناء الأوطان وازدهارها؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَطِّطُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، سَوَاءٌ فِي دَعْوَتِهِ أَوْ فِي بِنَاءِ دَوْلَتِهِ؛ وَلِذَا فَإِنَّ تَمْكِينَ الأَوْطَانِ فِي القَامَاتِ العَالِيَةِ لَيْسَ عَمَلًا وَقْتِيًّا، بَلْ هُوَ عَمَلِيَّةٌ مُسْتَدَامَةٌ يَحْفَظُهَا تَخْطِيطٌ بَعِيدُ المَدَى، وَيَحْمِيهَا التَّفْكِيرُ فِي الأَجْيَالِ القَادِمَةِ.
وإيجابية الرعية لا تعني الموافقة دائماً على كل شيء، بل من الإيجابية أيضاً عدم السكوت عن الباطل، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا. فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ) [رواه البخاري].
ومن الأخبار العظيمة التـي تبين واجب الرعية نحو وطنهم، ما رواه أبو قبيل قال: «خطبنا معاوية رضي الله عنه في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيئُنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يردَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يردَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام رجل ممَّن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئُنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأُدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس: إني تكلمت في أول جمعة فلم يردَّ عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يردَّ عليَّ أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَيَأْتِى قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ، فَلا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ تَقاحُمَ القِرَدَةِ»،
تبنى الأوطان، إيجابيَّة الرَّعيَّة، مسؤول، الوعي، التواصل، التعاون، إيلاف
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع