مدونة د. طه أحمد الزيدي


التوطئة في أحكام الأوبئة- حكم التطعيم والتلقيح قبل الإصابة بالوباء

د. طه أحمد الزيدي | Dr. TAHA AHMED AL ZAIDI


18/03/2020 القراءات: 2234   الملف المرفق


فقد اتفق الفقهاء على مشروعية التداوي والتطبيب بعد نزول المرض بأن يتعاطى المريض الدواء، ويأخذ العلاج ومنه التدخل الجراحي.
وأدلة المشروعية: إنّ الأَعْرَاب جَاءوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ: «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ» (أخرجه أبو داود، والترمذي).
وعَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (أخرجه مسلم، 4/1729).
وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ - أَوْ: يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ - خَيْرٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ". (أخرجه البخاري، 7/123، ومسلم 4/1729، ومعنى (توافق الداء): أي متحقق منها أنها تكون سببا لزوال الداء لا على سبيل التخمين والتجربة).
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يُعالَج من الأمراض، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتَنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ، (أخرجه أحمد )
قال ابن القيم: "وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا". (زاد المعاد لابن القيم، 4 / 14).
فالتداوي هو معالجة قدر الله تعالى بقدره سبحانه، وليس هو ردّ قدره أو الإعتراض عليه، وكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. (أخرجه البخاري، 7/130، ومسلم ، 4/1740).
ويتأكد أمر التداوي في الأمراض المعدية والأوبئة، لأن احتمالية تعدي الضرر إلى غيره مؤكدة، فإذا كان المرض معديًا أو متلفًا لغيره، فهذا يجب على صاحبه التداوي والالتزام بالإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية، من حجر صحي وغيره؛ للقاعدة الفقهية النبوية: (لا ضرر ولا ضرار)، بحيث لو أنه امتنع عن التداوي أو الحجر يجبر عليهما، صونا لنفسه وحفظا على حياة الآخرين وصحتهم، وحفظ النفس من الضروريات الخمس التي راعتها الشريعة الاسلامية في مقاصد تشريعاتها التي لا تستقيم الحياة الإنسانية الكريمة إلا معها.
ولعل من المسائل المستجدة في باب حفظ النفس: التطعيم أو التلقيح وهو أخذ العلاج قبل نزول المرض أو الوباء، وهو إجراء يتبع لتحصين الإنسان من مرض معدٍ، ويعطى المريض طعماً يحتوي على جراثيم المرض الذي تُرجى الوقاية منه، تكون ميتة أو موهنة. (الموسوعة الطبية الحديثة، 2/ 322)
ومعتمد مشروعية التطعيم في كونه علاجا وقائيا قد ثبت بالمآل نفعه وأمن ضرره بشهادة الأطباء أهل الاختصاص، يؤخذ قبل نزول مرض معدٍ أو يغلب فيه الهلاك، والأدلة عليه مشروعية العلاج الوقائي كثيرة، منها:
عَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا». (أخرجه البخاري واللفظ له ، 7/130، ومسلم 4/1739)، فهذا الحديث يدل على مشروعية إتخاذ إجراء وقائي للصحيح بمنعه من ورود أرض موبوءة خشية الإصابة بدائها، وهذا المقصد من التطعيم فدل على مشروعيته.
وعن سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ، وَلَا سِحْرٌ » (أخرجه البخاري، 7/140، ومسلم واللفظ له، 3/1618). فالنبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى أخذ ما يدفع الأذى من سم وسحر قبل وقوعه، فكذلك إذا خشي من مرض وطعّم ضد الوباء الواقع في البلد فلا بأس من باب الدفاع ، وكما يعالج المرض النازل، يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه. (فتاوى الطب والمرضى، اللجنة الدائمة ، ص 76).
وبناء على ما سبق: نرى مشروعية التطعيم والتلقيح ضد الأمراض الفتاكة المتوقعة؛ لأنّه من باب منع الإلقاء في التهلكة وتجنب التلف، فكما يحرم امتناع الإنسان عن الطعام أو الشراب لسد الرمق، خشية الموت وإتلاف النفس، فإنه يستحب أن يتقي المهلكة من مرض فتاك معدٍ أو وباء مهلك متوقع، بأخذ ما يدفعها قبل حصولها من أمصال ولقاحات، تخريجا على الحجر الصحي، بعدم الدخول إلى الأماكن الموبوءة أو لزوم البيت عند انتشاره في بلدته، وكل هذه الإجراءات تندرج تحت العلاج أو الطب الوقائي، الذي ثبتت مشروعيته، ولو قلنا بوجوبه لم نبعد عن تحقيق مقاصد الشريعة في حفظ النفس باعتبار المآل ومراعاة لفقه التوقع.


احكام كورونا- احكام الاوبئة- حكم التطعيم - التلقيح ضد كورونا- مستجدات صحية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع