مدونة عبدالحكيم الأنيس


همة العلماء وصبرهم على البحث

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


22/12/2024 القراءات: 356  


لعلماء المسلمين -رحمهم الله- في البحث والتأليف وحل المشكلات والمعضلات همةٌ عاليةٌ وصبرٌ عجيبٌ، وإخلاصٌ نادرٌ، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ، يحضرُني منها هذه الشواهد:
-«هذا الإمام الشافعي يقول: ‌تطلّبتُ ‌دليلًا على حجية الإجماع فظفرتُ به في قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا) [النساء: 115]». التحرير والتنوير (1/ 29).
وقوله: "تطلّبتُ" يدلُّ على مداومة التفتيش والدأب في البحث.
***
-وقال ابن الأثير في «النهاية»، مادة (سمسم) (2/ 400):
"في حديث أهل النار «فيخرجون منها قد امتحشوا كأنهم عيدان السماسم» هكذا يُروى في كتاب مسلم على اختلاف طرقهِ ونُسخهِ، فإن صحت الرواية بها فمعناه- والله أعلم- أن السماسم جمع سمسم، وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت ليؤخذ حبها دقاقًا سودًا كأنها محترقة، فشبه بها هؤلاء الذين يخرجون من النار وقد امتُحشوا.
وطالما ‌تطلّبتُ ‌معنى هذه الكلمة وسألتُ عنها فلم أر شافيًا ولا أُجبتُ فيها بمقنع. وما أشبه أن تكون هذه اللفظة محرفة، وربما كانت كأنهم عيدان الساسم، وهو خشب أسود كالآبنوس. والله أعلم".
فانظر إلى قولهِ: "طالما تطلّبتُ معنى هذه الكلمة"، وقولهِ قبلها: "هكذا يُروى في كتاب مسلم على اختلاف طُرقهِ ونُسخهِ"، فهو قد تتبع الطرقَ وكشف عن النُّسخ.
وقد نقل الزَّبيدي في "تاج العروس" (32/ 422) قول ابن الأثير، ولم يعلق. وكذلك ابن منظور مِن قبله في "لسان العرب" (12/ 302).
***
-وقال ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 188) في كلامه على مرآة الإسكندرية:
«ولقد تطلّبتُ الموضع الذي زعموا أن المرآة كانت فيه فما وجدتُّه ولا أثره، والذي يزعمون أنها كانت فيه هو حائط بينه وبين الأرض نحو مائة ذراع أو أكثر، وكيف ينظر في مرآة بينها وبين الناظر فيها مائة ذراع أو أكثر، ومن أعلى المنارة؟ فلا سبيل للناظر في هذا الموضع، فهذا الذي شاهدتُّه وضبطتُّه وكلّ ما يحكى غير هذا فهو كذبٌ لا أصل له».
***
-وقال الألوسي في "روح المعاني" (6/ 265):
«قد ألَّف شيخُنا علاء الدين [الموصلي]- أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين- رسالة في هذه الآية الكريمة [الآية 44 من سورة هود] جمعَ فيها ما ظهر له ووقفَ عليه من مزاياها فبلغ ذلك مئة وخمسين مزية، وقد ‌تطلّبتُ ‌هذه ‌الرسالة لأذكر شيئًا من لطائفها فلم أظفرْ بها، وكأن طوفان الحوادث أغرَقها، ولعل فيما نقلناه سدادًا من عوز، والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب».
وهنا يمضي الآلوسي على سنن مَن قبله في بذل الجهد في تطلُّب ما يثري البحث، وينفع القارئ، ويرفع من قيمة الكتاب.
وقد بحثتُ أنا عن هذه الرسالة التي ذكرها الآلوسي في فهارس المخطوطات في العراق، ولم أقف عليها، ولعلها في مكتبة خاصة، ولعل الإخوة المختصين بالدراسات القرآنية في العراق وغيره يبحثون عنها، ويبدو مِن وصفها أنها رسالة نفيسة مهمة.
***
-وقال الشنقيطي في «أضواء البيان» (8/ 326):
«وهنا سؤالٌ يفرضُ نفسه: لماذا كان مسجد قباء دون غيره، ولماذا اشترط التطهر في بيته لا من عند المسجد؟ ولقد ‌تطلّبتُ ‌ذلك طويلًا فلم أقف على قول فيه، ثم بدا لي من واقع تاريخه، وارتباطه بواقع المسلمين والمسجد الحرام: أن مسجد قباء له ارتباطات عديدة بالمسجد الحرام:
أولا: من حيث الزمن، فهو أسبق من مسجد المدينة.
ومن حيث الأولية النسبية، فالمسجد الحرام أول بيت وضع للناس. ومسجد قباء أول مسجد بناه المسلمون.
والمسجد الحرام بناه الخليل. ومسجد قباء بناه خاتم المرسلين.
والمسجد الحرام كان مكانه باختيار من الله، وشبيه به مكان مسجد قباء.
ومن حيث الموضوعية; فالمسجد الحرام مأمن وموئل للعاكف والباد. ومسجد قباء مأمن ومسكن وموئل للمهاجرين الأولين، ولأهل قباء، فكان للصلاة فيه شدة ارتباط بالمسجد الحرام تجعل المتطهر في بيته والقاصد إليه للصلاة فيه كأجر عمرة.
ولو قيل: إن اشتراط التطهير في بيته لا عند المسجد شدة عناية به أولًا، وتمحيص القصد إليه ثانيًا، وتشبيه أو قريب بالفعل من اشتراط الإحرام للعمرة من الحل، لا من عند البيت في العمرة الحقيقة، لما كان بعيدًا. فالتطهر من بيته والذهاب إلى قباء للصلاة فيه كالإحرام من الحل والدخول في الحرم للطواف والسعي، كما فيه تعويض المهاجرين عما فاتهم من جوار البيت الحرام قبل الفتح. والله تعالى أعلم».
ولعلك لحظتَ قوله أيضًا: "لقد ‌تطلّبتُ ‌ذلك طويلًا فلم أقفْ على قول فيه".
***
-وقال ابنُ عاشور في «التحرير والتنوير» (7/ 347-348):
«اعلمْ أني ‌تطلّبتُ ‌كشف ‌القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرية إبراهيم أو ذرية نوح، (على الوجهين في معاد ضمير ذريته). فلم يتضح لي، وتطلّبتُ وجه ترتيب أسمائهم هذا الترتيب، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف فلم يبد لي.
وغالب ظني أن من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفين لأهل الكتاب وللمشركين الذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب، وأن المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أن إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم وهما أب وابنه، فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال، وأن توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشاملة لأسمائهم.
ويجوز أن خفة أسماء هؤلاء في تعريبها إلى العربية حروفًا ووزنًا لها أثر في إيثارها بالذكر دون غيرها من الأسماء نحو (شمعون وشمويل وحزقيال ونحميا)، وأن المعدودين في هذه الآيات الثلاث توزعوا الفضائل إذ منهم الرسل والأنبياء والملوك وأهل الأخلاق الجليلة العزيزة من الصبر وجهاد النفس والجهاد في سبيل الله والمصابرة لتبليغ التوحيد والشريعة ومكارم الأخلاق كما أشار إلى ذلك قوله تعالى ....».
وهذا دليل آخر من قول ابن عاشور: "تطلّبتُ ‌كشف ‌القناع .. وتطلّبتُ وجه ترتيب أسمائهم".
هذه شواهد -وهناك غيرُها- على ما قدَّمتُ مِن همة العلماء وصبرهم، وفي ذلك أسوة حسنة لكل باحث أن يبذل الجهد، ويطيل التأمل، ويخلص للعلم.
***


علو الهمة. البحث العلمي. سير العلماء


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع