مدونة يحيى أحمد المرهبي


على قدم المساواة... رؤية تشخيصية 3- 3

يحيى أحمد المرهبي | Yahya ahmed almerhbi


30/08/2021 القراءات: 1844  


وقد أدرك ذلك الفتى الأفريقي كما في (رواية مدينة الرياح لموسى ولد ابنو التي أوردها د. محمد بن المختار الشنقيطي في إحدى مدوناته على موقع الجزيرة)، أدرك عُمْقَ المفارقة في النفاق الديني والاجتماعي السائد في قضية الرق في مجتمعات الصحراء المسلمة بغرب أفريقيا، ومنها المجتمع الموريتاني. فقد كان صعاليك القافلة يربطون هذا الفتى الأفريقي بذيل جمَلٍ وقتَ سير القافلة، فإذا حان وقت الصلاة، فكُّوا الحبل من عنقه، وأوقفوه بينهم يصلِّي كما يصلُّون، في صفٍّ واحد لا فرق فيه بين سيِّد وعبْد، فكان الفتى الصغير يتساءل في ذهنه متحيراً: "لماذا المساواة في الصلاة والقهر في الحياة"؟!
إن الأمر لا يقتصر على وجود الفكرة فحسب، كما تشير إليه القصة السابقة، بل يتعدى ذلك إلى تحويل الفكرة إلى إيمان يتدخل في سلوك الإنسان، فوجود الفكرة بشكل أولي لا يستلزم إيمان الناس بها إيماناً يظهر على سلوكهم ويدخل في لا شعورهم، فالناس كثيراً ما يتحدثون عن العدل والمساواة، ولكنهم عند التطبيق يظهرون بالقيم العشائرية والعنصرية والتعصبية الأكثر عمقاً في داخلهم، والذي يبدو أن دخول البشر إلى عهد القومية أو الإنسانية جاء متأخراً، ولعل فكرة الإنسانية ولدت قبل فكرة القومية، ولكن تحولها إلى مفهوم حاكم لسلوك الناس في حياتهم العملية أمر حديث الولادة. هذا هو الخوف من كشف الحقيقة، الخوف من قبول المساواة، لأن المقهور حين يسعى للخروج مما هو فيه، لا يهدف إلى السواء، بل لا يهدف إلى أن يتحول إلى قاهر، ولهذا فإن الصراع مأساوي، وتكاد الحلقة تكون مفرغة، وهي ليست مفرغة. كما يؤكد على ذلك الأستاذ جودت سعيد.
إن الأصل في الخلقة المساواة في الفطرة والكرامة الإنسانية، والأصل في الخطاب القرآني المساواة التامة في التكاليف والواجبات بين الرجل والمرأة أي في المسؤولية، وبعض الفروق التي وردت كفروق بين الذكورة والأنوثة هي للترتيب والتنظيم بين الجنسين ومراعاة الواقع، ومسؤولية كل طرف تجاه الآخر من جهة، وتجاه المجتمع من جهة أخرى. د. أحمد عرفات القاضي
والإسلام ينظر للرجال والنساء بعين المساواة، ولكن مع بعض التفريق في الدور. بشكل عام، يعتبر الإسلام الرجال والنساء شركاء يكملون بعضهم البعض ويساعدون بعضهم في المسؤوليات. ويرى المسلمون -وفقا لعبارة د. مراد هوفمان-ضرورة المساواة بين الرجل والمرأة فيما هما فيه متساويان فعلا، والاختلاف حين يكونان مختلفين فعلا.
وشتان بين القول (بتمايز) دور الرجل عن دور المرأة، والقول (بالتمييز أو الفصل العنصري) بينهما وفق توصيف د. إسماعيل الفاروقي. فدور المرأة كما دور الرجل خاضع على قدم المساواة مع نظيره للأحكام الدينية والأعراف الأخلاقية، ويستدعى كلاهما من صاحبه استخدام كل ما أوتي من الذكاء والموهبة والطاقة والقدرة على العطاء من أجل القيام به. ويخلص د. الفاروقي إلى إثبات أن المساواة بين المرأة والرجل هي الأصل، ولكنها محكومة بالتمايز والتكامل بين دوريهما.
وفي ظل متغيرات عالمية غير مسبوقة في التاريخ، تطورت آليات السوق وتغيرت معها قواعد التجارة وتبادل السلع والمنافع، وأصبحت الثقافة آلية من آليات الهيمنة والسيطرة بفضل عالم لا يعرف غير القوة في التعامل مع الآخر، عالم يتصنَّع أصحابه المساواة ويعلق شعار "جيران في عالم واحد" إلا أن الواقع يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه عالم لا يعرف المساواة بين الدول أو الشعوب، عالم تغيرت فيه موازين القوة وقواعد السلطة. فإذا لم يكن لنا الحق في المساواة على مستوى المجتمع المحلي، فمن باب أولى ألا يكون لنا نفس الحق في المجتمع العالمي، لأن حسَّ المساواة الأولية قد دُمَّر من زمن بعيد لصالح حسّ الامتيازات ولصالح الأقوياء دائماً، القوي هو الذي يضع المقاييس والأوزان، وله الحق في تعديلها، سواء أكان الرجل في مقابل المرأة، أو الأبيض مقابل الذي ليس بأبيض، أو القوي مقابل الذي فقد القوة.
والأمم المتحدة كواحدة من المنظمات الدولية التي يهيمن عليها الأقوياء، ليست شرعية مهما سميت شرعية دولية، لأنها تفقد المساواة، (ولا شرعية بدون مساواة). كما يقول الأستاذ جودت سعيد. فالذين يقبلون كلمة السواء ينبغي أن ينشئوا مؤسسة السواء، وإلى الآن لم يواجه العالم هذا الموضوع بجدية، حيث أنه إلى الآن لا يوجد في العالم من يثق بكلمة السواء، والناس عادة لا يدخلون في التجارب الجديدة إلا مضطرين، وكأن الظروف العالمية لم تنضج بعد حتى يشعروا بضرورة الدخول إلى التجربة الجديدة، (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. ...).
إن المساواة والإخاء بين الناس ممكن، فقط، إذا كان الإنسان مخلوقًا لله. فالمساواة الإنسانية خصوصية أخلاقية وليست حقيقة طبيعية أو مادية أو عقلية. إن وجودها قائم باعتبارها صفة أخلاقية للإنسان، كسمو إنساني أو كقيمة مساوية للشخصية الإنسانية. وفي مقابل ذلك، إذا نظرنا إلى الناس من الناحية المادية أو الفكرية، أو ككائنات اجتماعية أو أعضاء في مجموعة أو طبقة أو تجمع سياسي أو أممي، فالناس في كل هذا دائمًا غير متساوين. حسب تعبير المفكر علي عزت بيجوفيتش.
ويبقى هناك فرق واحد واضح، هو أن أخلاقيات الأديان السماوية وحدها تسلم بجلاء لا لَبْس فيه بمساواة جميع البشر باعتبارهم مخلوقات لله. حتى أفلاطون سلم بعدم المساواة بين الناس كضرورة. وعلى نقيض ذلك، نجد أن حجر الزاوية في الأديان المنزّلة هو «الأصل المشترك» لجميع البشر، ومن ثم المساواة العادلة بينهم. وكان لهذه الفكرة تأثير جوهري على جميع التطورات الروحية والأخلاقية والاجتماعية للجنس البشري. وفوق هذا يبدو أن تاريخ علم الأخلاق يكشف عن العلاقة بين فكرة المساواة بين الناس وفكرة الخلود ـ وهو موضوع يحتاج إلى دراسة أعمق. إن النظم الدينية والأخلاقية التي لا تعترف، أو التي لديها فكرة مشوشة عن الخلود، لا تعترف بالتالي بهذه المساواة. فإذا لم يكن الله موجودًا، فإن الناس بجلاء وبلا أمل غير متساوين.


المساواة - العدالة - رؤية تشخيصية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع