مدونة د. سالم مبارك محمد حسن بن عبيدالله


ابن جنِّي وجهوده الصوتية الجزء الثالث

د. سالم مبارك محمد حسن بن عبيدالله | D. Salem Mubarak mohammed ban obaidellah


09/09/2020 القراءات: 4107  


لقد أدرك العرب هذا التخطيط المقطعي من ذي قبل، فأكدُّوا عليه حتّى في تقطيع الوزن العروضي للشعر عند الخليل في حدود، وهو ما أثبته ابن جنِّي في برمجيَّته للمقاطع في تفصيله.
ولقد أفاد علماء الغرب من هذا الملحظ إفادة تامَّة، فقد كان المقطع تبعًا للتفكير التقليدي عندهم يتكوَّن من حركة تعتبر دعامة أو نواة، يحوطها بعض الصوامت consonnes، وعليه بني اسم consonne أي الذي يصوّت مع شيء آخر، وهو الذي لا يصوّت وحده، وأطلق على الحركات اسم مصوتات sonnetes؛ لأنَّها قادرة على التصويت دون الاعتماد على شيء آخر، ومن هنا كان المفهوم الوظيفي للمقطع، كما جاءت أفكار الحركات والصوامت( يُنْظَر: برتيل مالمبرج، العالم الأصواتي الفرنسي علم الأصوات تعريب: د. عبد الصبور شاهين، نشر مكتبة الشباب، القاهرة ، ١٩٨٥م /155.). وهو الذي تحدَّث عنه ابن جنَّي، والواقع في الفكر الصوتي عند العرب، فالحرف لا ينطق وحده فيشكِّل صوتًا، إلَّا بانضمام الحركة إليه، فيتكوَّن بذلك المقطع الصالح للتصويت. ويرى "أتوجسبرسن" otto Jespersen: أنَّ الوحدات الأصواتيَّة تتجمَّع حول الوحدة الأكثر إسماعًا، بحسب درجة الوضوح السمعي. والمقطع طبقًا لرأيه هو المسافة بين حدَّين أدنيين من الوضوح السمعي. فنظريَّة "جسبرسن" من بين ما ارتضاه عالم الأصوات الانجليزي دانيال جونز، فهي وصف جيَّد للمقطع المثالي، ولكنَّها لا تقول شيئًا لنا عمَّا هو جوهري في المقطع، ولا تقول لنا: أين الحدّ بين المقاطع، وهو ما يطلق عليه الحد المقطعي(يُنْظَر: برتيل مالمبرج، علم الأصوات /157. ).
لقد كان البنيوي "فرديناند دي سوسور" أقرب إلى الفكر العربي في تصوّره لحدود المقطع الصوتي على أساس درجة الانفتاح في الأصوات، إذ تتجمع الصوامت حول الحركات تبعًا لدرجة الانفتاح، فالحد المقطعي يوجد ويتوافر حين يكون التنقّل من صوت أكثر انغلاقًا إلى صوت أكثر انفتاحًا( يُنْظَر: فردينان دي سوسور، لغوي سويسري، علم اللغة العام. ترجمة د. يوئيك، يوسف عزيز، آفاق عربية، بغداد، ١٩٨٥م /77 وما بعدها، والصوت اللغوي في القرآن /66.).
إنَّ هذا التوصّل إلى حدود المقطع وتعريفاته عند الأوروبيين هو الذي ذهب إليه ابن جنِّي، وأضاف إليه ذائقة كل مقطع، قال: ((وسبيلك إذا أردت اعتبار صدى الحروف أن تأتي به ساكنًا لا متحركًا، لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقرَّه، وتجتذبه إلى جهة الحرف التي هي بعضه، ثمَّ تدخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله؛ لأنَّ الساكن لا يمكن الابتداء به، فتقول: اك . اق . اج ؛ وكذلك سائر الحروف، إلَّا أنَّ بعض الحروف أشدّ حصرًا للصوت من بعضها))(سرّ صناعة الإعراب 1/19 - 20. ).
وهذا ما يُعَدُّ ابتكارًا لم يسبق إليه، إلَّا فيما عند الخليل في ذواقة للأصوات اب | ات | اع | اغ( يُنْظَر: العين 1/47.). فهي مقاطع طويلة مقفلة، تكونت من ثلاثة عناصر في كل منها، هي: الألف والكسرة والحرف: ب | ت | ع | غ . والمدهش أنَّ ابن جنِّي يهتدي إلى سرِّ المقطع من خلال تصريفه لشؤون الحركات، فهو يعتبر الحركة صوتيًّا تتبُّع الحرف، فتجد بهما الصوت يتبع الحرف: ((وإنَّما هذا الصويت( أوَّل من استخدم مصطلح "الصويت" ابن جني وهو أقرب ما يكون إلى مصطلح "الوحدة الصوتية"، وهي ذلك الصوت الأم الذي يندرج تحته عدد آخر من الأصوات، تختلف عنه صوتيًّا على نحو من الأنحاء، لكنَّها لا تخرج عن كونها فرعًا منه؛ لأنَّها تؤدِّي الوظيفة نفسها، ويقال عن هذه الأصوات التي تتضمنها الوحدة الصوتية إنها أعضاؤها "Allophones" أو صورها. ويمكن أن يطلق عليها مصطلح الصُّوَيْتات. يُنْظَر: سرّ صناعة الإعراب 1/20، والخصائص 1/ 58 – 59، 79، ومبادئ علم الأصوات، ديفيد أبركرومبي، ترجمة وتعليق د. محمد فتيح، ط1، 1409 ه - 1988م /133، وأضواء على الدراسات اللغويَّة المعاصرة، د. نايف خرما، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1978م /269، والصوتيات، تأليف برتيل مالمبرج، ترجمة د. محمد حلمي هليل، معهد الخرطوم الدولي للغة العربيَّة، الخرطوم، 1985م /123 حاشية رقم 1، ولمع من علم الصوت في القراءات القرآنيَّة.) التابع لهذه الحروف ونحوها ما وقف عليها، لأنَّك لا تنوي الأخذ في حرف غيرها، فيتمكَّن الصويت فيظهر؛ فأنَّما إذا وصلت هذه الحروف ونحوها فإنَّك لا تحس معها شيئًا من الصوت كما تجده معها إذا وقف عليها))(يُنْظَر: سرّ صناعة الإعراب 1/ 20، والصوت اللغوي في القرآن /66. ).
فيتَّضح من كلام ابن جنِّي أنَّ الصَّوت يخرج مع النَّفس( سرّ صناعة الإعراب 1/19.)، ثمَّ يضيف أنَّ التَّعرُّف على صدى الحرف يقتضي تسكين هذا الأخير مع إضافة همزة القطع في أوَّله، وعلَّته في ذلك أنَّ: الحركة تجذب الحرف إلى صوت الحرف الذي هو بعضه( يُنْظَر: سرّ صناعة الإعراب 1/19 - 20.)، فالوجه الواحد عنده لا يمكن أن يحدِّد (صوت الحرف). وهذه الطريقة التي وضعها ابن جنِّي لمعرفة صدى الحرف قد حذَّر منها علماء الأصوات في العصر الحديث؛ لأنَّها طريقة غير علميَّة وغير دقيقة، والحرف حينها: ((لا يتحقَّق فيه الاستقلال الذي هو أساس التجربة الصحيحة))( الأصوات اللغويَّة / 20.)، أمَّا الحرف فإنَّه يرادف في كلامه، ما سبق أن سميناه بمخرج الصوت، وذلك واضح من قوله بعد ذلك: ((الحرف حدّ منقطع الصوت وغايته))( سرّ صناعة الإعراب 1/28.). ومثل هذ الفهم للصوت والحرف عند ابن جنِّي، يوجد كذلك عند ابن سينا؛ إذ يقول: ((والحرف هيئة للصوت عارضة له، يتميَّز بها عن صوت آخر مثله في الحدَّة والثقل تميُّزا في المسموع))( أسباب حدوث الحروف، الحسين بن عبد الله بن سينا (428هـ)، تحقيق محمد حسان الطيان ويحيى مير علم، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، ط. 1403هـ ـ 1983م /6.).


ابن جني - العرب- الفكر الصوتي- المقطع الصوتي - المصوتات - الصويت - ابن سيناء


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع